"نظراً لعدم اعتيادهم على التظاهر، يواجه المشاركون الجدد (أو المحتملون) عقبات تفصل بين رغبتهم في الانضمام وبين مشاركتهم الفعلية، لذلك فإن عدد الذين يتبنون القضية - موضوع التظاهر - يتفوق بكثير على عدد المشاركين الفعليين الذين يتمكنون من التغلب على العوائق النفسية والعملية والظرفية قبل نزولهم إلى الشارع" - (Verhulst and Walgrave (2009
بينما شهد العالم عبر السنوات وفرة في الدراسات التي ناقشت شخصية المتظاهر وديناميكية تحركه وأدائه (مثال الدراسات التي قدمها دالتون وفان سيكل ووالدن وغيرهم من الباحثين)، بقي النقص فادحاً في الدراسات التي تناولت ديناميكيات المتظاهرين الذين يشاركون للمرة الأولى (First-time Protesters) أو المرشحين المحتملين للمشاركة في التظاهرات.
في بحثهما المطول الذي تناول ما أسموه "أبعد من الظواهر المعتادة في التظاهرات" أي "المشاركين الجدد" في تظاهرات اليونان في العام 2010، يقول الباحثان وولفغانغ روديغ وجورجيوس كاريوتس إن "كل الحركات الاجتماعية تسعى لاستقطاب أولئك المخضرمين في عالم التظاهر، وتدعم ذلك بالعديد من الدراسات والأبحاث بشأنهم".
في المقابل، ينتقد الاثنان النقص، البحثي والعملي، الواقع بشأن المشاركين الجدد لكونه "يحد من قدراتنا على قياس الأهمية السياسية لمجموعة احتجاجية معينة، وعلى تقييم طول نفسها وقوتها وحجم تأثيرها".
ويرى الباحثان أن المشاركين الجدد هم أكثر تشابهاً مع عامة الناس من المتظاهرين المخضرمين/ الناشطين، وفي موقع آخر يؤكدان كذلك على أهمية مقارنة المشاركين الجدد مع غير المشاركين لجهة هوية المنضمين حديثاً وخلفياتهم الاجتماعية والاقتصادية ودوافعهم وراء المشاركة، فضلاً عن كيفية هذه المشاركة.
النموذج اللبناني
يحضر هذا الكلام مع عودة الاحتجاجات إلى الشوارع اللبنانية، على خلفية قرار الحكومة رفع الضرائب من أجل تمويل سلسلة الرتب والرواتب. ولأن الحكومة سعت لتمويل سلسلة الفقراء من جيوب الفقراء أنفسهم، فقد جاء قرارها بفرض ضرائب مجحفة تمس المواطن العادي، متجاهلة الضرائب على المصارف وعلى الكثير من القطاعات والشخصيات الميسورة.
الاحتجاجات لم تكن مستجدة، فقد سبقتها أخرى خلال الصيف الماضي رداً على أزمة تكديس النفايات في الشوارع، وتوسعت مطالبها لتطال النظام اللبناني الفاسد و"الوقح"، كما أسماه المتظاهرون، بأكمله. وإن كانت مطالب المحتجين تجمعهم مع شرائح واسعة من اللبنانيين إلا أن المشاركة بقيت محدودة في الصيف الماضي، كما في هذه الأيام.
من هنا عاد السؤال إلى الواجهة: ما هي العقبات التي تحول دون مشاركة أوسع؟
في عودة إلى دراسة فيرهولست وويلغريف (التي تعد شبه الوحيدة حول مسألة المشاركين الجدد) تظهر عقبات عامة تجمع المشاركين المحتملين حول العالم، ومن بينهم اللبنانيين.
يُضاف لذلك عقبات أخرى تخص النظام اللبناني الذي قام عبر العقود على شبكات زبائنية معقدة، سهلت تأطير الكثير من اللبنانيين في بنى حزبية وتبعية، أو زجتهم في حالة من اليأس التام عززها غياب البنى البديلة عن الحالة الحزبية التي تعزز الأمان الحياتي والاجتماعي في ظل انكفاء مؤسسات الدولة.
لماذا شاركوا؟ لماذا انسحبوا؟
في بحث أطلقته مؤخراً "الجامعة الأمريكية في بيروت"، وأعدته الباحثة كارول كرباج، طُرحت مسألة مشاركة الفئات التي دخلت الحراك للمرة الأولى خلال الصيف الماضي.
والجدير ذكره أن الحراك الماضي كان امتداداً لحركات مطلبية كانت قد سبقته في الأعوام السابقة، بقيت محصورة بفئات اجتماعية وثقافية محددة، لكنه (حراك الصيف الماضي) نجح في استقطاب فئات جديدة أعطته زخماً مطلبياً حين انطلاقه. استقطاب سرعان ما تلاشى، إذ سارعت هذه الفئات إلى الانسحاب تباعاً بعد فترة قصيرة.
مع العلم، أن الأعداد الكبرى، وعلى رغم مشاركة فئات جديدة، بقيت في دائرة السلبية، فغابت عن المشهد العام للحراك، ولم تنجح في تخطي العوائق النفسية والاجتماعية والظرفية التي تحول دون مشاركتها الفعلية في الاحتجاجات التي تطالب بقضايا تمس جوهر حياتها.
يطرح بحث كرباج السؤال الأساسي حول ديناميات الاحتجاج المتعلقة بالفئات الاجتماعية المنخرطة، وتحديداً حول الفئة التي دخلت إلى الساحة للمرة الأولى، كما الأسباب التي أدت إلى انسحابها لاحقاً. ويتطرق كذلك إلى الأسباب التي منعت فئات أخرى، تتبنى قضايا الاحتجاج نفسها، من المشاركة.
حمل البحث عنوان "السياسة بالصدفة"، وهذا المصطلح عرفته الباحثة بـ"أشكال تنظيمية عفوية خارجة عن التنظيمات السياسية التقليدية. هيكلياتها مرنة، خطابها عفوي، مطالبها فضفاضة، تحركاتها استعراضية... وانتصاراتها رمزية".
هذه السياسة التي رافقت مجموعات الحراك المتعددة، ساهمت في جذب أناس جدد، يملؤهم الملل من التنظيمات التقليدية، حتى أنها جذبت أناساً حزبيين شاركوا بعدما رأوا أناساً "يشبهونهم" قد سبقوهم للمشاركة. لكن الارتجال السياسي الذي تقوم عليه "السياسة بالصدفة" والذي "يغرف أساساً من الفكر السائد" ولكن بشكل غير مسيس، أبقاها غير قادرة على تحقيق انتصارات فعلية.
في المقابل، يفتقر كثر من المشاركين (الجدد تحديداً) إلى رفاهية التجريب التي تتطلبها مثل تلك السياسة، وبالتالي جاء الانسحاب سريعاً.
وأتت التناقضات التي ظهرت بين منظمات وحملات الحراك لتعزيز مخاوف المشاركين. لقد بدا هؤلاء في حالة إرباك انعكست خوفاً لدى أناس يملؤهم الخوف أساساً من دخول مجهول (الرفض والثورة) في ظل غياب بديل متين يفترض بالمنظمين طرحه.
ولعب خطاب هذه الحملات، الذي اتخذ بعداً إقصائياً غير مباشر، في إبقاء المشاركين الجدد على الهامش وسد الطريق أمام المشاركين المحتملين.
بحسب البحث، توجه خطاب إحدى المجموعات بشكل مباشر نحو شباب الطبقات الوسطى المتعلّمة، بينما حمل خطاب أخرى بعداً قضائياً - مؤسساتياً وحصر آخر الخطاب بالجانب التقني لحل أزمة النفايات.
تردد في الحراك عبارة "نحن... تلاميذ الجامعات، الاساتذة، الناشطين، الموظفين، أصحاب الشركات، الفنانين... وأولاد البيوت"، ما صبغه في بعض الأحيان ببعد طبقي، جعل الآخرين من مناطق معينة، أو من طبقات اجتماعية معينة، أو حتى "لا يرتدون لباساً لائقاً"، يمتنعون عن المشاركة في تظاهرة تمر من أمام منازلهم، حتى لو كانوا يشاركونها في حمل القضايا نفسها.
الـ"نحن" والـ"أنتم"
بدل أن تعمل الحركات على استقطاب أناس جدد، استعاضت بالإعلام الذي رأت لديه قدرة على تولي هذه المهمة. لكن بالعودة إلى بحث فيرهولست وولغريف (Verhulst and Walgrave) فإن هذه "التعبئة المفتوحة" تجمع مجموعات غير متجانسة، يحملون في بعض الأحيان أفكار متناقضة، فضلاً عن أنها لا تسمح بخلق روابط بين المشاركين الجدد والناشطين المعتادين.
وبينما أتاحت وسائل الإعلام للناس "الفضفضة" الوجدانية والانفعالية، لم يتلقف ناشطو الحراك هذه المطالب ليعمدوا إلى تأطيرها أو ترجمتها في السياسة، فبقيت مفرغة من معناها.
كما لعب الإعلام دوراً سلبياً في صناعة نجوم من الناشطين، في ما يشبه الاحتكار للخطاب والتعبير، ما شخصن هذا الحراك لدى المشاركين الجدد أو الممتنعين عن المشاركة، وجعلهم يربطون التحرك المطلبي بهذه الوجوه التي كانت تستفزهم أحياناً أو لا يتفقون معها في خطابها أو في طرق تعبيرها.
وفي المرات التي خاطب بها الكثير من وجوه الحراك والمشاركين المخضرمين أولئك القابعين في بيوتهم، جاء الخطاب عدائياً تشوبه السخرية أو الاحتقار. وضع الطرف الأول جميع المتواجدين خارج الشارع في بوتقة واحدة، ولم يأخذ بالاعتبار الظروف المعيشية والحياتية للعديد منهم.
"السياسة بالصدفة: هيكلياتها مرنة، خطابها عفوي، مطالبها فضفاضة، تحركاتها استعراضية... وانتصاراتها رمزية"
في المقابل، تلقف كثر ممن امتنعوا عن المشاركة هذا الاحتقار برد فعل لا يقل عدائية، فرأوا الامتناع كرد فعل شخصي على "المستعلي عليهم" ممن يتواجد في الشارع. وهكذا ضاع الخصم المشترك (السلطة) وسط تصفية حساب الحساسيات الفردية، التي تتداخل فيها الانتماءات الحزبية والمذهبية والطبقية والمناطقية.
يُضاف لذلك ما حصل من رفع لسقف المطالب ومحاولة الحصول على سلة إنجازات متكاملة، مقابل الاستخفاف في تحقيق إنجازات موضعية. وقد أسهم ذلك في تسريع ملل المشاركين الجدد الذين لم يلمسوا إنجازاً فعلياً من مشاركتهم.
وفي مرحلة أخرى، عند لجوء السلطة إلى العنف، تعزز خطاب الـ"نحن" (الشعب) والـ"أنتم" (السلطة)، ما دفع كثر للمشاركة كرد فعل عاطفي. لكن سرعان ما تحول هذا الخطاب إلى الـ"نحن" ("الناشطين المحترمين") والـ"أنتم" ("الزعران" و"المندسين")، في ما ظهر كتخلي من الحراك عن أولاد الفئات الفقيرة والمهمشين الذين قاموا بـ"أعمال الشغب".
وهكذا بدا الحراك كما أنه قد خذل الناس، التي خاطرت بالنزول إلى الشارع متحدية أحزابها وبيئاتها الاجتماعية، فتخلى عنها، أو قابلها بخطاب استعلائي فيه الكثير من الطبقية والنخبوية.
تكرار الخطأ؟
في ظل الغياب الواضح للهيكلية داخل هذه التنظيمات، غابت في السابق إمكانية المحاسبة، وساعد ذلك أصحاب القرارات على التنصل من مسؤولياتهم.
مع عودة المتظاهرين إلى الساحة اعتراضاً على قرارات الحكومة الأخيرة، بدا واضحاً أن كثراً تعلموا من الأخطاء الماضية، فغابت عن الواجهة وجوه عديدة كانت قد طبعت الحراك الماضي.
مع ذلك، يبدو أن كفة تكرار أخطاء أخرى شوهت الحراك السابق أكثر ترجيحاً، لا سيما مع التناقض الواضح في تصور آليات الحصول على المطالب: حوار مع السلطة من عدمه، مواجهات عنيفة من عدمها، تظاهرات مفتوحة من عدمها، انتقادات شخصية وتبادل اتهامات بين الناشطين الذين يحاول البعض منهم تحقيق بطولات شخصية.
بقيت تظاهرة الأحد الماضي قاصرة عن اجتذاب مشاركة واسعة، كما عن استقطاب وجوه جديدة وطمأنتها، مع ذلك فقد خرجت أصوات متفائلة لتؤكد على بدء تشكل وعي جديد لم يكن موجوداً في السابق على الناس، وعوّلت بالتالي على فعل المراكمة الذي تخلقه هذه التحركات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين