شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
حدّ الردّة: هل حرّمه القرآن وحلّله المسلمون؟

حدّ الردّة: هل حرّمه القرآن وحلّله المسلمون؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الجمعة 24 مارس 201702:50 م
"لم تعد مجرد جريمة يختلف حول عقوبتها الفقه الإسلامي، وهل هناك إجماع على قتل المرتد أم لا، المسألة الآن مؤامرة الدولة على الحرية، مؤامرة الديكتاتورية على المعارضين، مؤامرة قتل عباد الله بالافتراء عليه وانتحال صلاحياته، مؤامرة الخاطفين للسلطة والمتغلبين على الأمم ضد معارضين لا يملكون إلا ألسنة يقطعونها إذا لم تسبح بحمدهم، تحت سيف حماية دين الله من الردة". بهذه الكلمات وضع الفقيه العراقي طه جابر العلواني يده على واحد من أخطر تداعيات ما يسمى بـ"حد الردة" الذي يطعن في مصداقية تبني الإسلام لحرية الاعتقاد والفكر. كيف تأصل حدّ الردة في العقل الإسلامي، خلافاً للقرآن والسنة وحتى الصحابة الأوائل؟ سنحاول الإجابة عن ذلك اعتماداً على الكتب التالية: "الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية" للفقيه المغربي أحمد الريسوني، "لا إكراه في الدين - إشكالية الردة والمرتدين من صدر الإسلام إلى اليوم" للفقيه العراقي طه جابر العلواني، "الحرية الدينية في الإسلام" للعالم الأزهري المصري عبد المتعال الصعيدي، و"تفنيد دعوى حد الردة" للمفكر الإسلامي المصري جمال البنا.

حرية الاعتقاد كقيمة عُليا في الإسلام

يذهب جمال البنا إلى أن القرآن قرر حرية العقيدة بصفة مطلقة، وجعلها قضية شخصية بين الإنسان وربه، لا دخل للنظام العام فيها، واستشهد بعدد من الآيات، منها: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"، "فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسهِ"، "وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ"،. ويعتقد العلواني أن حرية الاعتقاد مقصد من مقاصد الشريعة، وقيمة عليا وردت في 200 آية لم تذكر مرة واحدة حداً للردة أو عقوبة دنيوية عليها.

الدين والإكراه لا يجتمعان

"الدين والإكراه لا يمكن اجتماعهما، فمتى ثبت الإكراه بطل الدين". هكذا قال الفقيه المغربي أحمد الريسوني، وتساءل: أجمع الفقهاء على بطلان الزواج وكافة التصرفات التي تقوم على الإكراه، فكيف يمكن الزعم بأن الإكراه ينشىء ديناً؟ ويدفع جمال البنا بخطأ بعض الفقهاء في اعتبار أن المقصود بآية "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّين" أهل الكتاب الذين يدفعون الجزية، معتبراً أن ذلك التفسير يفتئت على نص ومضمون وروح الآية. ويتفق معه الريسوني مؤكداً أن "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّين" قضية كلية عامة، سارية على أول الزمان وآخره، سارية قبل دخول الإسلام وبعده، فالدين لا يكون بالإكراه ابتداءً كما لا يكون بالإكراه بقاءً، وبالتالي لا يجب التسليم مع الرأي القائل بأن القتل يكون للردة، لأن "حد الردة" ما هو إلا إكراه على البقاء في الإسلام. الأمر نفسه أكده عبد المتعال الصعيدي الذي اعتبر أن الآية يدخل ضمن أحكامها المرتد، لأن الإكراه كما يكون في الابتداء يكون في الدوام.

"من بدّل دينه فاقتلوه"

اعتبر البنا أن توجيهات القرآن للرسول هي الحاكمة في فهم الأحاديث، فالرسول مهمته تنتهي عند البلاغ المبين، وأنه "لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ"، "مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً"، و"لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ". ويرى العلواني أن الفقهاء حينما رأوا أن القرآن يخلو من اعتبار الردة حداً شرعياً، كذلك السنة النبوية، لجأوا إلى حديث قولي مرسل ليعززوا به موقفهم الذي اعتبروه مستند إجماع على وجوب قتل المرتد، وأكد أن الرسول لم يقتل مرتداً واحداً طيلة حياته، والوقائع الشهيرة التي يستند إليها الفقهاء في تبرير قتل المرتد لا تتصل بالردة الدينية وحسب، ولكنها تتعلق بإعلان التآمر وقتال المسلمين. ورد الريسوني على مزاعم محاربة الرسول للمشركين وإكراههم على الإسلام، مؤكداً أنه لم يقاتل "الكافر والمنافق" لمجرد الكفر والنفاق، وإنما لأسباب أخرى، كالدفاع عن النفس ورد العدوان وإحباط التآمر وكسر شوكة الطغيان واستعادة الحقوق المغصتبة، والآية التي يبرر بها الفقهاء حد الردة "سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ"، خص الله بها الأعراب بل المخلفين منهم.
يجمع علماء دين كثر على أن حدّ الردة (وهو القتل) ما هو إلا إكراه على البقاء في الإسلام، ولا إكراه في الدين
وأكد العلواني أن الأحاديث التي اعتمد عليها جمهور الفقهاء في القول بقتل المرتد، هي أحاديث آحاد، أشهرها "من بدل دينه فاقتلوه"، وهو حديث له ارتباط وثيق بمؤامرة ذكرها القرآن "وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ..."، فهذا الحديث قِيل في رجل يهودي متآمر دخل الدين ثم ارتد عنه بغرض تحطيم الجبهة الداخلية، لذا من الطبيعي أن يتم قتاله لا لأنه ارتد لكن لأنه قاتل المسلمين، ورأى العلواني أن المشكلة الأساسية في هذا الحديث تتلخص في روايته بمعزل عن القرآن. كما دفع جمال البنا باستبعاد الإمام "مسلم" للحديث، مؤكداً أنها شبهة جسيمة لا يمكن إغفالها. الحديث الآخر الذي استند إليه فريق "قتل المرتد"، هو ذاته الذي استند إليه الريسوني في نفي "حد الردة"، ففي حديث "لا يحل دم أمرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث... المارق من الدين المفارق للجماعة". يقول الريسوني إن هذه الجزئية في الحديث مركبة من فعلين: الردة، ومفارقة الجماعة بمعنى "المحاربة والقتال في صفوف العدو"، وهو ما يؤكد أن إباحة قتل المرتد اقترنت بحمل السيف على الجماعة. "الرسول لم يعرف حداً للردة، ولم يأمر به، ولم يطبقه"، قال جمال البنا مستشهداً بعدة وقائع، أبرزها واقعة عبيد الله بن جحش الذي ارتد بعد إسلامه وهاجر إلى الحبشة، واعتنق المسيحية هناك، فما أهدر النبي دمه، ولا طلب من النجاشي، ملك الحبشة آنذاك، تسليمه إليه. كذلك ارتد اثنا عشر مسلماً ثم خرجوا من المدينة إلى مكة، ومنهم الحارث بن سويد الأنصاري، فما حكم بقتل مرتد منهم. كما اعتنق المسيحية شابان، فشكاهما أبوهما إلى الرسول قائلًا: "يا رسول الله: ادع ولديّ يدخلون النار" فلم يقل له الرسول مثلاً اقتلهما أو دعني أقتلهما، وإنما أسمعه الآية القرآنية: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ".

ألم يحارب أبو بكر المرتدين؟

يقول جمال البنا إن بعض القبائل عندما سمعت بوفاة الرسول، أرادت أن تتحرر من دفع الزكاة بحجة أنهم كانوا يدفعونها للرسول، وتتحرر من خلافة أبي بكر، والقضية لم تكن ردة عقيدة، إذ كان منهم من يؤمن بالله والرسول ويصلي، وإنما تمرد على أخص مقومات الدولة. وأشار العلواني إلى جانب آخر هام. فأبو بكر لم يضع حداً فاصلاً بين البعد العقيدي والبعد السياسي في الحرب، ولذلك بنى عمر بن الخطاب وقتها اعتراضه على ما ذهب إليه ظنه بأنه لا يجوز قتال من ما زال يقول لا إله إلا الله، فلفت أبو بكر نظره إلى البعد الكلي الذي حاول المرتدون آنذاك أن يهدموه بغرض العودة إلى النظام الجاهلي. فكانت حروب الردة لا لإعادة من غيروا اعتقادهم إلى الإسلام بالقوة ولكن لإلزام مواطنين تخلوا عن التزاماتهم باعتبارهم مواطنين في دولة.

هل أقر الإسلام عقوبة دنيوية على المرتد؟

يعتقد عبد المتعال الصعيدي أن الحكم بقتل المرتد لا يقع إلا على المرتد القاتل، أو الذي يكره المسلمين على ترك دينهم، فالقتال هنا للدفاع عن الحرية. أما المرتد المسالم، فلا عقاب عليه في الدنيا، فالحرية الدينية ترتبط بالعقاب الدنيوي، فإذا كان هناك عقاب دنيوي على الاعتقاد لم تكن هناك حرية دينية، والعكس صحيح. واستنكر العلواني إقدام الفقهاء على إيقاف العمل بـ200 آية صريحة نصت على إطلاق حرية الاعتقاد، مؤكداً أن آفة تقديم الحديث على القرآن، من أخطر ما أصاب الفقه الإسلامي. ورأى الريسوني أن جدال قتل المرتد بين الفقهاء يجب أن يُفهم في سياق الكيان الإسلامي الناشىء، فعملية الدخول والخروج من الإسلام آنذاك كانت تنطوي على تآمر والتحاق بصفوف العدو، وبالتالي الجنايات المصاحبة للردة هي المقصودة بهذا الجدال وليس الردة في حد ذاتها.

200 آية قرآنية صريحة تنص على حرية الاعتقاد، فبأي حق تطبق بعض السلطات حدّ الردة عن الإسلام!

وفي ما يتعلق بمسألة "الاستتابة" التي سنها بعض الفقهاء قبل الإقدام على قتل المرتد، قال جمال البنا إن هؤلاء أخذوا موقف حُماة القانون والنظام، وليس دعاة حرية الفكر والعقيدة، فعلى كثرة ما يحث القرآن والرسول المؤمنين على التوبة، فإنه لم يمارس يوماً "الاستتابة" بالطريقة التي قررها الفقهاء، والتي ما هي إلا إرهاب فكري وإذلال نفسي. ورفض الصعيدي أيضاً "الاستتابة" قائلاً: "المسلمون يجب أن يشغلهم من دنياهم ما هو أهم من عودة مرتد إلى الإسلام".

حد الردة صناعة فقهية

"من أين جاء حد الردة إذا لم يكن في القرآن ما ينص على عقوبة دنيوية على الردة، وإذا لم يكن في عمل الرسول أو قوله ما يتضمن مثل هذه العقوبة، وإذا جاءت مواقف معظم الصحابة بعيدة عنها"، يتساءل جمال البنا، ويوضح أنه عندما احتدمت الخلافات المذهبية وهددت وحدة الأمة في أواخر الدولة الأموية، وأوائل الدولة العباسية، أقر الفقهاء حد الردة واعتبروه عقوبة فريدة لا تدخل في باب الحدود بالمعنى الدقيق، فهؤلاء الفقهاء كانوا ينطقون بروح عصرهم، وإجماعهم يدل على هذا. في هذا السياق، يؤكد العلواني أن العقل الفقهي تأثر بالنظم والقوانين التي أُضيفت للنظام العام للدولة بعد الفتوحات، ومنها ما يتعلق بتجريم تغيير الولاء، ويدفع بأن "التهمة" التي عالجها فقهاء الماضي غير "التهمة" التي تعالج الآن، فهم كانوا يناقشون جريمة مركبة اختلط فيها السياسي والقانوني والاجتماعي، ويشير إلى أن القطع بحد الردة تحت سيف الإجماع تجاهل السنة التطبيقية التي لم توقع عقوبة على المرتد المسالم. ويتفق معه عبد المتعال الصعيدي الذي قال إن حجية الإجماع على قتل المرتد تتعارض مع "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ". ويعود العلواني ليؤكد أن المذاهب الإسلامية الفقهية اختلفت في ما بينها اختلافاً كبيراً ليس من السهل ادعاء أي نوع من أنواع الإجماع معه، ولو سلمنا جدلاً بوجود إجماع فإنه لا سند لهذا الإجماع المدّعي.

خطورة الاستمرار بحد الردة

"مقاومة حد الردة حتمية لأنه سيف مصلت على أعناق المصلحين والمجددين، وليس على أعناق المرتدين"، قال جمال البنا. وأوضح العلواني خطورة الاستمرار بحد الردة، معتبراً أن قضية الردة "سياسية"، والجانب الديني فيها يُوظف في إطار الجانب السياسي، وروى قصة تؤكد ذلك: "بعد انقلاب الشيوعيين الفاشل عام 1963، قرر حزب البعث العراقي إعدام الحزب كله وكان عدد المقبوض عليهم 5500 شخص، وحينما أُسندت المهمة لأحد الألوية، طلب فتوى دينية، فأخذت له الحكومة فتوى من كبار علماء السنة والشيعة آنذاك، بضرورة إعدام الشيوعيين باعتبارهم مرتدين، وعندما سألني قلت له إن ذلك حرام شرعاً، وسألته لو لم يقدم هؤلاء على الانقلاب هل كانوا سيُعدمون، فقال لي لا، قلت له إذاً هي قضية سياسية لا علاقة لها بالدين، فاعتذر الرجل ولم تنفذ العملية بهذا الشكل الجماعي".

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image