انتشرت مؤخراً صورة على مواقع التواصل الاجتماعي لجناح الجزائر في أحد المعارض الدولية بباريس، وقد تزينت واجهة الجناح بقنينات نبيذ محلية الصنع. استهجن الكثيرون هذه الصورة من منطلق ديني، معتبرين أن للجزائر ما يمثلها اقتصادياً عدا الخمور والأنبذة.
لكن القراءة الاقتصادية لتلك الصورة قد تكون على النقيض تماماً، إذ تأتي الخمور في المرتبة الثانية بعد المحروقات في قائمة صادرات الجزائر، مشكلةً بذلك مورداً هاماً للعملة الصعبة، كما أن شهرة النبيذ الجزائري العالمية قد بلغت الآفاق.
وتحوز الأنبذة الجزائرية سمعة دولية جيدة. كما أن إنتاج البلاد يعتبر ضخم من حيث الكم، إذ تحتل المرتبة الثانية إفريقياً من حيث الإنتاج والخامسة في مجال التصدير، بحسب إحصائيات المنظمة الدولية لإنتاج النبيذ.
تاريخ أصيل
اشتهرت الجزائر بزراعة الكروم وإنتاج النبيذ الفاخر منذ العهد الروماني، فقد قام الرومان باستغلال الظروف المناخية التي تتميز بها الجزائر، والسهول الممتدة من الشرق إلى الغرب، والأرض الخصبة التي تسمح بمثل هذه الزراعة. اشتهرت آنذاك مدينتي شرشال وعنابة شرقاً، بإنتاج نبيذ يصل خمارات ومجالس العاصمة الإمبراطورية روما. بعد دخول الإسلام قلّ نشاط مزارع الكروم وإنتاج النبيذ، فيما أعاد الإسبان في وهران النبيذ الجزائري إلى مكانته، واستثمروا في حقول الجهة الغربية.تحتل الخمور المرتبة الثانية في صادرات الجزائر وفي موارد العملة الصعبة، بعد المحروقات
كان النبيذ هدية الحكومة الجزائرية للزعيم الكوبي فيديل كاسترو، بعد أن دعمها في حربها ضد المغربلاحقاً ومع قدوم الاستعمار الفرنسي، في القرن التاسع عشر، شهدت صناعة النبيذ طفرة وغزارة في الكم والنوع، إذ توزعت "مزارع الكولون" في جهات عدة، وأقيمت مصانع لإنتاج النبيذ، كانت غالباً ملحقة بتلك المزارع، ولا زالت تلك المصانع مستغلة إلى اليوم. في الحقبة الاستعمارية كان نبيذ الجزائر حكراً على التصدير بل وصار يلقب بـ"شراب المشاهير" نظراً لجودته. وتوزعت غالبية تلك المزارع في مناطق المتيجة وعين تموشنت والمدية ومعسكر ووهران. شكلت خمور الجزائر 22% من إجمالي صادرات فرنسا آنذاك وكانت تبيعه بسعر يفوق 75% نظيريه الاسباني واليوناني اللذين كانا أشهر الماركات في ذلك الوقت. وقد أحب مشاهير كثيرون نبيذ الجزائر، منهم الممثل شارلي شابلن والزعيم الكوبي الراحل فيدال كاسترو. ويروي الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بلة أنه "عندما وصلت سفينة كوبية لدعم الجزائر في حرب الرمال ضد المغرب في 1963 لم نستطع أن نعيدها فارغةً فسألت السفير الكوبي فقال لا نريد شيئاً. وعندما كررت السؤال قال إن كاسترو يحب النبيذ الجزائري وتعجبه الخيول لديكم وهكذا ملأنا الباخرة بالنبيذ والزيتون وبعض الخيول. وعلى مدى ستة أشهر كان المركب يذهب ويجيء يحمل إلينا السكر ونرسل فيه الزيت والنبيذ".
فرنسا السوق الأكبر
تصدّر الجزائر 800 ألف لتر من النبيذ سنوياً، فيما يتم استهلاك قرابة الستين مليون لتر في السوق المحلية. إذ تشير آخر إحصاءات الديوان الوطني لإنتاج الخمور (تأسس عام 1963)، إلى أن 60% من الإنتاج موجه للاستهلاك الداخلي. فالجزائريون يفضلون الخمور المحلية على المستوردة من الخارج، نظراً لجودتها وتناسب أسعارها مع جيب المواطن البسيط. ورغم المنافسة التي يشهدها سوق النبيذ في الجزائر، إلا أن النوع المحلي ما زال محبوب الشاربين. وبحسب المنظمة الدولية للنبيذ، بلغ استهلاك الفرد الواحد في الجزائر من الخمور 10.9 لترات، ما جعل الجزائر تصنف في المرتبة 11 عالمياً من حيث الاستهلاك. لقد سعت الحكومة الجزائرية إلى تطوير ميدان صنع الخمور بعد ملاحظتها للانخفاض الكبير في الإنتاج والتصدير، ففي مايو 2015 أوصت الحكومة الوزارات المعنية بضرورة الاهتمام بعملية تصدير الخمور الجزائرية للخارج. جاء ذلك في إطار سعي الدولة لتنويع مصادر الدخل بعد انخفاض سعر البترول في السوق العالمية، وضرورة استغلال الإمكانيات التي تحوزها الجزائر في ميدان الزراعة والتصنيع. قرار سمح لميدان زراعة الكروم وصناعة النبيذ بالتحسن تدريجياً، فقد بلغت كمية الإنتاج تقريباً 63 مليون لتر. وتعتبر فرنسا المستورد الأول للنبيذ الجزائري بنسبة 75%، تليها المملكة المتحدة، ثم سويسرا، ثم جنوب إفريقيا وكندا. كما تحوز الخمور الجزائرية صيتاً جيداً في أندونيسيا، حيث يعتبر النبيذ أكبر واردات البلد من الجزائر، كما يتم حاليا التركيز على فتح أسواق جديدة في الدول الإفريقية.المحاذير الدينية والاجتماعية
كل هذه الأرقام وهذا التوجه الحكومي الصريح للاستثمار في ميدان تصدير الخمور، دفع بوزير التجارة الأسبق عمارة بن يونس لمحاولة تقنين السوق ومنح تراخيص لنقاط بيع جديدة، والتي بلغ عددها وفقاً لآخر التقديرات 600 محلاً. وقد طرح الوزير مشروعاً لإدارة سوق الخمور في البلاد، من أجل تحريره من قبضة الأسواق الموازية وفتحه أمام الجميع. لكن المشروع قوبل برفض شديد ونقد لاذع من طرف الأوساط المحافظة التي وصفت القرار بـ"المنافي لدين الدولة وعادات المجتمع"، الأمر الذي اضطر الحكومة لتجميد القرار، رغم علم جميع الأطراف أن الخمور تباع في السوق السوداء بضعف أسعارها. كما أن تقنين السوق سيفتح المجال لفرص عمل جديدة، فهو يشكل مورد رزق ما يقارب 40 ألف عائلة تتوزع على 189 وحدة إنتاج. هذه الإجراءات الحكومية لتطوير الميدان، تقابلها موجة استيراد هائلة في السنوات الأخيرة. فقد نشرت إدارة الجمارك الجزائرية عام 2015 إحصاءً مالياً ذكرت فيه بلوغ فاتورة استيراد الخمور 12 مليار دينار تتوزع على شتى أنواع المشروبات الكحولية. وتجدر الإشارة إلى أن نواب الكتلة الإسلامية في البرلمان قدموا اقتراحاً لتعديل المادة 96 من الدستور ودعوا من خلاله إلى إدراج منع استيراد الكحول في قانون المالية لسنة 2015.لكل مدينة نبيذها
تشتهر الجزائر أساساً بإنتاج النبيذ الأحمر أو "الروج" كما يسمى باللهجة الشعبية. وتنتشر وحدات إنتاجه في مناطق مختلفة. بعض الوحدات حكومية والأخرى تابعة للقطاع الخاص. وتحمل "ماركات" النبيذ الجزائري أسماء مدن، بحسب المنطقة التي تم إنتاجه فيها، أو مصدر العنب الذي صنع به. ونجد علامات "كتبية"، و"البرج"، و"منصورة"، و"تلمسان"، و"ماسكارا"، وغيرها من علامات النبيذ الجزائري الفاخر. ويتراوح سعر قنينة النبيذ بين 5 و10 دولارات تقريباً باختلاف النوعية.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 4 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت