عبرت أغاني سيد درويش إلى حياة المصريين (وغيرهم في العالم العربي) لتنضح بها البيوت والمصانع والمقاهي في جميع الأوقات، ما حافظ على الموسيقى الدرويشية بما يزيد عن عمر صاحبها.
لم يترك سيد درويش، المولود في 17 مارس من1892 بحي كوم الدكة في الإسكندرية، فئة أساسية من النسيج المصري لم يغن لها. ففي رحلته الفنية القصيرة التي استمرت ست سنوات، أنتج قرابة الـ250 لحناً شكلت ملامح المجتمع بطبقاته المختلفه، بدءاً من الصنايعية والشيالين والموظفين حتى الحشاشين، الجماعة التي كان عضواً أساسياً فيها.
الشيخ الذي عشق الموسيقى
يروي أبناء وأحفاد سيد درويش في المؤلفات التي وثقت سيرته على لسان أمه، أنه لم يكن قد بلغ الأربعين يوماً حين كان يترك ثدي أمه فور سماعه صوتاً حنوناً، فيجوب بعينيه باحثاً عن مصدره.
ألفت الأسرة ثلاثة كتب هي "سيد درويش 75 عاماً من الخلود" وكتبه حسن البحر، حفيده لابنه محمد البحر. كما كتب محمد البحر نفسه مولفاً آخر بعنوان "الموسيقار سيد درويش". ويوجد كتاب ثالث بعنوان "من أجل أبي سيد درويش" من تأليف حسن درويش ابنه الثاني، وهي الكتب التي حفظت سيرته وأعماله أمام الجمهور.
شكلت بدايته في الكتاتيب والمدارس التي تنقل فيها شخصية "الشيخ الموسيقي". كان يحفظ القرآن الكريم والأناشيد معاً، إلى أن التحق بالمعهد الديني العلمي بالإسكندرية بزيه المعمم الذي يرتديه الأزاهرة. ولكنه انصرف عن الدراسة فيه بعد عامين، إذ رأى أنه سيقف حائلاً بينه وبين ما يحسه من انتماء إلى الموسيقى والغناء.
يشرح حسن البحر، حفيد فنان الشعب، أن جده اشتهر بالغناء في مقاهي الإسكندرية في سن الـ15، فكان دائم الترحال بجلبابه وعوده بين المقاهي، إلى أن عمل مناولاً للبياض في أحد العقارات، ليكتشفه حينها الأخوان أمين وسليم عطا الله اللذان أعجبا بصوته واصطحباه إلى سوريا ليضرب موعداً مع عالم الشهرة خارج حدود الوطن.
قضى سيد درويش أكثر من ثلثي حياته، قرابة 25 عاماً، في اللهاث وراء الغناء والتكسب منه في الإسكندرية وسوريا. وشهدت السنوات الست الأخيرة من عمره التي قضاها في القاهرة صعوده إلى قمة الهرم الموسيقي، بخدمة المسرح في فرقتي جورج أبيض ونجيب الريحاني، ثم بداية رحلته مع تلحين الأعمال الوطنية لمقاومة الاحتلال الإنجليزي في المسرح.
قاد نضالاً من نوع آخر أمام الإنجليز في خضم ثورة 1919، فكانت أناشيده وقوداً للمتظاهرين في شوارع القاهرة، كما سخّر أوبريتاته على المسرح لترديد الأناشيد الوطنية المناوئة لحكم المستعمر حينذاك، ولعل أبرزها النشيد الوطني "بلادي بلادي" الذي اختير ليكون السلام الجمهوري لجمهورية مصر العربية.
بيتهوفن الموسيقى العربية
حصل سيد درويش على العديد من الألقاب، أشهرها فنان الشعب وخادم الموسيقى، لكن هناك مَن يشبهه ببيتهوفن الموسيقى العربية، فيقول الدكتور محمد شبانة، أستاذ الغناء والموسيقي في أكاديمية الفنون، إن الملحن الألماني بيتهوفن إذا كان قد انتقل بالموسيقى من المرحلة الكلاسيكية إلى الرومانسية، فدرويش انتقل بها من التقليدية إلى الحركة والتنوع، إذ اعتمدت موسيقاه على الطرب والتعبير في الوقت نفسه.
وأشار شبانة لرصيف22 إلى أن درويش تأثر بالمدرسة الإيطالية كثيراً لكنه لم ينهل منها ألحانة التي صعنت الثورة الفنية في مصر بعد أعوام من الركود، لذا يعتبر زعيم المجددين للموسيقى العربية.
بالنسبة لشبانة، تكمن عظمة درويش في الوصول إلى الناس وإمساكه بإمكانيات الملحن في الأدوار العشرة (طريقة تلحين مصرية)، وهو ما يظهر في الطقطوقات والديالوغات وفن القصيدة.
هل تعرفون لماذا لقّب سيد درويش ببيتهوفن الموسيقى العربية؟ حياة الشيخ الذي ملأت أغانيه منازلنا وساحاتنا
احتفالاً بالشيخ الذي عشق الموسيقى في يوم ميلاده
وأضاف صاحب دراسة "تجليات شعبية في أعمال سيد درويش"، أن درويش احتل مكانته بين الفئات الشعبية لاستخدام لغة الشارع والطبقة الشعبية والألفاظ التي تناسب كل فئة، وظهر ذلك بوضوح في الأغاني التي خصصها للطوائف الطبقية، مثل الشيالين والصنايعية والموظفين.
نشأت فلسفة سيد درويش على أن كل شيء مكتوب يمكن أن يلحن ويغنى ما دامت هناك فكرة ورأي وموقف وإحساس، فانتقل بالفن من حيّز التطريب الضيق إلى آفاق التعبير الرحبة وخطا خطوات كبيرة نحو عالم الإنسانية الواسع، وفقاً للباحث الموسيقي الدكتور أسامة عفيفي، في بحثه التاريخي عن موسيقى سيد درويش.
ويحسب لدرويش أنه خلق من الفن الشعبي فناً راقياً، وأخرج الفن من الصالونات إلى المسارح والشوارع والبيوت والمقاهي، فردد الناس أناشيده فى المظاهرات. لم يعد الغناء مقصوراً على المطرب الفذ، وإنما غنت الجماهير ألحانه.
العلاقات الغرامية للشيخ سيد
تزوج الشيخ سيد مرة واحدة حينما بلغ الـ16 عاماً قبل رحلة سفره الأولى إلى سوريا مع الأخوين أمين وسمير عطا الله، وأنجب من زوجته ولديه محمد وحسن، لكنه ارتبط مرتين خلال مسيرته الفنية القصيرة بالإسكندرية والقاهرة.
المرة الأولى كان ارتباطه بالراقصة جليلة وهي صاحبة قصة حبه التي لم يكتب لها الزواج، فيروي حفيده حسن البحر أن جده عرفها أثناء جولاته الغنائية على مقاهي الإسكندرية بعد العودة الثانية من سوريا عام 1914.
ويقول حفيده عن جليلة: "الشيخ الراحل كان يعتقد ويؤمن أنها مصدر وحيه وإلهامه وتقول هي أنه ما من لحن لحنه إلا كانت له بينهما مناسبة".
ويسجل حسن البحر أن طقطوقة "زوروني كل سنة مرة"، التي تعد من الأغاني الحاضرة حتى الآن، قد لحنها عقب سوء تفاهم وقع بينه وبين جليلة أدى إلى خصام لبعض الوقت. لكن تلك العلاقة لم تستمر طويلاً حتى قرر درويش الانتقال إلى القاهرة.
في القاهرة، ارتبط الشيخ بعلاقة سرية مع حياة صبري، إحدى المغنيات اللواتي تتلمذن على يده، فكان دائم التردد على منزلها لأنها كانت ملهمته التي عوضته عن جليلة، وشاركته بعض الأغاني والأعمال المسرحية، وهي الفتاة التي أشارت بعض التقارير الصحافية عن زواجها سراً من درويش في أيامه الأخيرة.
مغني الحشيش
احتل الحشيش أهمية كبيرة في حياة الشيخ سيد، فاشتهرت جلساته مع أصدقائه التي لم تخل مائدتهم من الحشيش وزجاجات الكحول، كما غنى له نص "التحفجية" من تأليف بديع خيري: "دا الكيف مزاجه إذا تسلطن أخوك ساعتها يحن شو شو شوقاً... إللي حشيش بيتي نيتي نيشي اسأل مجرب زي حالاتي".
لكن النص يتراجع عن فلسفته في تناوله في آخر النص:
واقولك الحق يوم ما نلقى بلادنا طبت في أي زنقة
يحرم علينا شربك ياجوزة روحي وانتي طالقة
دي مصر عايزة جماعة فايقين يا مرحب
ويشير حفيده حسن البحر إلى أن إحساس سيد درويش بمسؤوليته الفنية تجاه مجتمعه جعله يتوجه إلى مكافحة المخدرات التي كانت منتشرة بأنواع كثيرة في تلك الحقبة بدعوى الاستيقاظ من أجل مكافحة الاستعمار.
ويستند في ذلك إلى رسالة بعث بها إلى صديقه حسن القصبجي قبل وفاته بعام، وجاء فيها: "وأما مسألة سهرك للصبح إذا كان في غير الاستحقاق تطرشه أنت ومن معك ولو يزعلوا واللي يزعل يشرب من... لغاية الأنفوشي، والسلام ختام". ومما جاء فيها أيضاً: "أرجو أن تكون كما أنا اليوم قاطعت كل شيء نظراً لحادثة وقعت أمامي في الخازندار".
ينفي إيمان البحر درويش، حفيد سيد، في حديث لرصيف22، الرواية المتداولة عن وفاة جده عن عمر ناهز 31 عاماً بسبب إسرافه في تعاطي الحشيش ليلة وفاته، مؤكداً أنه "تعرض للخيانة من العدو الإنجليزي الذي أودع له السم في وجبة الغداء".
ويدلل إيمان البحر على صحة رواية الأسرة بأنهم تقدموا بطلب للحكومة المصرية حينذاك من أجل تشريح جثمان جده، لكن الطلب بقي حبراً على ورق.
وجسد إيمان قصة حياة جده في مسلسل "أهل الهوى"، إنتاج 2013، وهو العمل الدرامي الثاني الذي يسلط الضوء على حياة فنان الشعب بعد فيلم "سيد درويش"، إنتاج 1966، الذي جسد فيه الفنان كرم مطاوع الشيخ سيد بصحبة هند رستم، التي جسدت الراقصة جليلة.
"رسم شخصية سيد درويش بنيت على مراجع تاريخية حقيقية، وكنت حريصاً على تصحيح الصورة الخاطئة عن جدي في الفيلم وخصوصاً مشهد وفاته، وإبراز التباين بين تسممه على يد الإنجليز ووفاته من الحشيش كما جاء في الفيلم" يقول إيمان البحر عن الاختلاف بين العملين اللذين جسدا جده.
25 يناير تحيي سيد درويش
ساهم الإرث الغنائي السلس للشيخ سيد في انتشاره وإحياء تراثه من الأجيال الفنية الصاعدة، فبخلاف اهتمام إيمان البحر بالحفاظ على تراث جده، برزت بعض الفرق الغنائية الأندرغراوند في السنوات الست الأخيرة، التي تزامنت مع ثورة 25 يناير، بفضل أغاني درويش.
من هذه الفرق "إسكندريلا" و"الأولة بلدي" و"بهية"، والمطرب المستقل محمد محسن الذي اشتهر أيضاً باعتماده الأساسي على أغاني درويش، ومنها "أهو ده اللي صار" و"التحفجية" و"شد الحزام" و"قوم يا مصري".
"كثيرون حاولوا تقديم لون سيد درويش في السنوات الأخيرة، وبكل تأكيد هو يضيف لكل الذين غنوا أعماله"، يقول إيمان. ويشير إلى أن أذواق الجمهور اختلفت عن الزمن الماضي، إذ زادت نسبة الجماهير التي تشجع الأعمال التجارية لافتاً إلى أن المجتمع المحاط بالفنان هو من يصنع لونه ويحدد قيمته لأنه يغني لمن حوله.
وعبّر حفيد درويش عن ضيقه من تجاهل الدولة لقيمة جده، إذ رفع اسمه عن مسرح سيد درويش بالإسكندرية وجرى تغييره إلى "أوبرا الإسكندرية"، كاشفاً عن أن وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني كان ينوي تغيير النشيد الوطني للبلاد الذي لحنه جده في ثورة 1919، لكن الخطة لم تكتمل بسبب اندلاع ثورة 25 يناير والإطاحة بحكومة الوزير.
في سياق آخر، كشف البحر عن إعداده توزيعاً جديداً لأغنية من تراث سيد درويش ستتم إذاعتها في ذكرى ميلاده الـ90.
ويرى الموسيقار حلمي بكر أن إحياء تراث فنان الشعب "فرض عين" على جميع المطربين، مشيراً إلى أن إبداعه يعيش في الذاكرة ولا يختفي بمرور السنين.
وقال بكر لرصيف22 إن جيل دوريش يختلف عن الجيل الحالي، لأنه زمن استهلاكي بلا ملامح أو شكل إبداعي، بعكس الزمن القديم الذي صنع ملامح للموسيقي العربية.
ماذا لو عاش درويش في القرن الـ21؟
برأي حلمي بكر، إن الفنان الذي خلق الإبداع يتفوق على التكنولوجيا، لأنها لم تترك بصمتها مع الأجيال الجديدة، مشيراً إلى أن تنوع موسيقى سيد دوريش "تجعله مبدعاً بين الرومانسية والوطن والمجتمع".
ويقول محمد شبانة، أستاذ الغناء والموسيقي بأكاديمية الفنون، إن كل زمن له فنه ونجومه الذين يعبرون عنه، مستبعداً أن ينتج الأداء الثقافي المتراجع في الوقت الحالي درويشاً آخر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين