على مرّ العصور، اكتسبت الكتب الدينية التوحيدية قدسية مادية بحد ذاتها، فجرى حمايتها من "الكفار" ومُنع تمزيقها أو إهانتها أو رميها.
لم يحظ كتاب في التاريخ بالقدسية التي أحيط بها القرآن، فجاء في إحدى آياته "فلا أقسم بمواقع النجوم* وإنه لقسم لو تعلمون عظيم* إنه لقرآن كريم* في كتاب مكنون* لا يمسّه إلا المطهرون* تنزيل من رب العالمين".
أمام استنباط الفقهاء لفتاوى دعت لصون القرآن ومنعت مسه من غير طهارة وأحاطته بجملة من الآداب قيّدت التعامل معه وحرمت رمي النسخ القديمة أو العبث بها، رسم ظهور المصاحف الإلكترونية والرواج الواسع الذي لاقته، واقعاً جديداً في التعامل مع الكتاب الديني، وفي علاقة المسلمين مع النص الكامل والتفاعل معه.
الإنجيل بدوره لم يسلم من نسخة الديجيتال، إذ أرخت الهواتف الذكية وثورة التواصل الاجتماعي ثقلها على علاقة المسيحيين بالكتاب المقدس وبدور العبادة.
تذكر شبكة "بي بي سي" البريطانية قصة القس بيت فيليبس في مدينة دورهام خلال العام 2008. كان فيليبس قد دخل إلى كاتدرائية المدينة وبدأ بقراءة الإنجيل المحفوظ على هاتفه المحمول، فقام مسؤول في الكاتدرائية بطرده، معللاً السبب بمنع استخدام الهاتف المحمول في الكنيسة. لم يصدق أحد حينها أنه كان يستخدم هاتفه للتعبد.
القرآن في عالم الديجيتال
منذ بداية ظهور القرآن الإلكتروني في أندونيسيا وصولاً إلى اليوم، تعددت نسخه وأشكاله، حتى أصبح مطابقاً بالخط والشكل للقرآن الورقي، كما رافقته الكثير من الخدمات المصاحبة التي تساعد على معرفة أحكام التجويد وتفسير الآيات والمعلومات التاريخية، وغيرها من الأمور الميسّرة.
احتفى كثر بانتشار التطبيق وسهولة استخدامه، كما بإتاحة القرآن في جميع الأماكن كالعمل والباص والسوق والمنزل. ووجدوا في هذه الخاصية الإلكترونية باباً يسهّل وصول الدين الإسلامي إلى الجيل الشاب في أنحاء العالم، لا سيما مع سهولة ترجمته وإرفاق الترجمة بالنص الأساسي.
واختلفت أشكال المصاحف الإلكترونية بين ما هو مجرد نسخ للقرآن الورقي بواسطة الماسح الضوئي Scan، وبين ما هو بصيغة الـPDF التي تمنع تعديل الحروف أو الآيات، عمداً أو عن طريق الخطأ، وصيغة الـWord التي تسمح بالتحكم في المضمون. في وقت يعتمد نظامي تشغيل للمصحف الإلكتروني، الأول خاص به تماماً مستقل عن غيره من البرامج والثاني يأتي في إطار نظام تشغيل عام للأداة الإلكترونية.
أمام هذا الواقع، اختلف الفقهاء، ولا يزالون، في شرعية التعامل مع المصاحف الإلكترونية من عدمها.
بدا الاختلاف بداية عاطفي التوجه، يشابه الجدل الرومانسي بخصوص القراءة في كتاب، أي كتاب، بشكله الورقي ومتعة تقليب الصفحات.
لكن النقاش ذهب إلى ما هو أبعد في التعامل مع أكثر الكتب قدسية. الطرف المرحب رأى في الإلكتروني باباً لإعادة القرآن إلى سابق انتشاره وتيسير استعماله في كل الأوقات، ووجد الفقهاء أن الأحرف الإلكترونية مجرد ذبذبات لا يمكن مسها، وما يلمسه القارئ هو الشاشة التي تعد مجرد انعكاس لهذه الأحرف.
وهكذا، يمكن لمن هو على غير طهارة القراءة فيه، ولا يفترض به التقيد بالعديد من آداب التعامل مع الورقي.
من جهته، حذر الطرف الرافض من القرآن الإلكتروني لما يوجد فيه من أخطاء في التطبيقات المنتشرة تؤثر على المعنى في أحيان كثيرة، كما رأى في تشريعه فتح مجال أمام جهات غير موثوقة قد تعد تطبيقات محرفة.
وحضر عنده كذلك الكلام عن دور النسخة الورقية، بما تحمله من ثقل تاريخي وديني، يساعد في التأمل والخشوع وحضور القلب في عملية التعبد.
إنجيل "يوفرجين" وقداس على تويتر
بحسب تحقيق لكريس ستوكر - واكر على موقع "BBC Future" فإن الإنجيل المتاح على تطبيق "يوفيرجين" قد حمّله أكثر من 260 مليون شخص حول العالم منذ انطلاقه في العام 2008.
ووفقاً لتقرير الشركة المنتجة فإن المستخدمين قد قضوا حتى الآن ما يزيد عن 235 دقيقة في استخدامه، وقد ظللوا (Highlighted) أكثر من 636 مليون آية من الإنجيل.
بدورها واكبت الكاتدرائيات التطورات الحديثة، وبات يُسمح في معظمها للناس باستخدام الهواتف لأغراض العبادة. ووصل الأمر بعدد من القساوسة إلى إنشاء مدونات إلكترونية وفتح حساب للأبرشية على موقع تويتر، وحتى أن بعض الكنائس بدأت بنشر تعليقات أو مقاطع فيديو عن العظة عبر تويتر أثناء إلقائها.
يُعيدنا موقف الكنيسة الآن من مواقع التواصل الاجتماعي إلى رد فعلها الصارم قديماً حيال اختراع آلة الطباعة، فنجد أنه لم يكن هناك بد أمام المد الإلكتروني سوى الاستجابة، وإلا خسارة كثر من الأجيال الجديدة.
ويثير الموضوع جدلاً كبيراً حول مدى ملاءمة هذه المواقع في الكنيسة، إذ يشير المعارضون إلى أن استخدام الأجهزة الإلكترونية يلهي عن الاهتمام بالقداس، كما أن استخدام تويتر (والأحرف المحددة بـ104) غير مناسب لعرض مفاهيم دينية ملتبسة.
كما يرى هؤلاء أنه عندما يقرأ النص على الشاشة لا يتم التفاعل معه في الغالب بشكل وجداني، بل يذهب فيه القارئ إلى المعلومة مباشرة. يصف هؤلاء هذا النوع من القراءة بالفاترة، ويرون أن الإنجيل لم يكتب ليُقرأ على هذا النحو، "فأنت تقرأه كما لو كنت تقرأ نصاً على موقع ويكيبيديا وليس نصاً مقدسا"، بحسب التحقيق.
في المقابل، يشير المرحبون إلى أن من الصعب إهمال الهواتف الذكية ومواقع التواصل بعدما تغلغلت في كل جوانب حياتنا، كما أنها باتت تساعد على نشر الأفكار والتعبد بسهولة أكبر إلى الله.
كيف يغيّر هذا الواقع علاقة المتدين بالدين؟
بغض النظر عن الجدل المحتدم بين أحقية التطبيقات الدينية الإلكترونية من عدمها، وإيجابياتها من سلبياتها، ثمة نقطة باتت من الوضوح بما لا يمكن إنكارها. لقد غيرت هذه الوسائط ديناميكية العلاقة بين المتدين/ المؤمن وبين دور العبادة وحضور العظة / الخطبة وصولاً إلى العلاقة مع الدين نفسه.
كيف ذلك؟
لم تعد الممارسات الدينية مع وسائل التواصل تأتي كحزمة واحدة كما في السابق، أتاحت التكنولوجيا للناس التعامل مع الشعائر الدينية بما يتناسب مع أهوائهم وميولهم، وبات لكل شخص فرصة الخوض في تجربة دينية تتناسب مع شخصيته.
بموازاة ذلك، تراجع دور الواعظ أو الخطيب، كما ضرورة الحضور الجسدي إلى دار العبادة. العالم كله يسير على شبكة الإنترنت، فما الذي يمنع الدين من اللحاق بالركب؟
ليست سهولة الوصول إلى المعلومة ما أسهم في تراجع الحضور الشخصي إلى دور العبادة فحسب، بل تعزيز وسائل التواصل لمبدأ الانتقائية، إذ بات يختار المتصفح الإلكتروني ما يلائمه من التعاليم والمعتقدات، ويتفادى قراءة ما ينفر منه.
وتتيح خاصية التظليل وسهولة التنقل بين آية وأخرى، انتقاء الجزء المراد قراءته أو مشاركته مع أحد ما من دون الأخذ بالأجزاء الأخرى.
في هذا الإطار، يطرح تحقيق الـ"بي بي سي" مفهوم "الربوبية الأخلاقية". يشرح العلماء هذا الشكل من الإيمان بأنه "إقرار بأن الله خلق الكون ووضع النظام الأخلاقي لكنه ينكر تدخله في حياة الخلق"، ويركز بالتالي على الجانب الخيري الأخلاقي للدين حصراً.
وقد ذكر علماء الاجتماع هذا النوع من الإيمان للمرة الأولى في العام 2005، لكن وسائل التواصل الاجتماعي عملت على نشره بشكل واسع النطاق.
كما تتيح مواقع التواصل الاجتماعي للناس اختيار الآيات التي يريدون قراءتها بدلاً من الجلوس والاستماع إلى آيات يختارها رجل الدين، وبحسب تقرير "يوفيرجين" فإن غالبية الآيات التي ظللها المستخدمون أو شاركوها مع آخرين تناولت الصراعات الشخصية أو القضايا الخاصة بالإنسان، ولم تكن تلك الخاصة بإظهار عظمة الله.
وظهرت كذلك مع هذه الموجة موضة نشر الآيات الدينية مرفقة بصور للطبيعة أو للشخصيات الدينية، بعضها أخذ منحى هزلي والآخر قربها من الناس وأشعرهم بالقدرة على التفاعل معها ونشرها بشكل جذاب وبالتالي تحبيب الناس بها.
قد يختلف هنا مدى تجاوب المؤسسات الدينية مع الوضع الجديد من دين إلى آخر، ومن منطقة إلى أخرى، لا سيما مع نمو النزعات المتطرفة التي تدعو للعودة إلى أصول الدين. رغم ذلك، لا يمكن إنكار تغيّر الشخصية الإيمانية وتفاعلها مع التكنولوجيا حتى في أكثر البيئات تطرفاً. وفي هذا الإطار، لا يزال النقاش طازجاً ويفتقر للكثير من التمحيص والدقة في المقاربة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين