"يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد". لسبب ما، فسر المسلمون هذه الآية بأنها دعوة لارتداء أحسن الحلل عند التوجه إلى الصلاة في المسجد. ولأن الآية لا تنص على ارتداء زي بعينه، فإن ما يرتديه المسلم في هذه المناسبة، يدل مباشرة على ذوقه. والذوق دائماً يكون انعكاساً لثقافة صاحبه.
في السطور التالية، محاولة لرصد إطلالات المتدينين في مصر، بما يعكس ميولهم المذهبية، من خلال ما يرتدونه من ملابس بمحض إرادتهم، من دون أي التزام لدواعي العمل أو السمة الاجتماعية وما شابه.
ملابس السلفيين الأكثر تنوعاً
لعل السلفيين هم الأكثر تنوعاً في هذا الإطار، ربما لأن دعوتهم ليست مركزية كغيرهم من أتباع المناهج والمذاهب الأخرى، التي ستأتي لاحقاً. لكن ذلك لا يمنع وجود بعض الأعراف غير المعلنة، منها أن ارتداء الزي الخليجي الكامل من دون العقال، مقتصر على أصحاب المكانة الدعوية، أو المالية أو الاجتماعية. فإذا رأيتم شخصاً ملتحياً يلبس جلباباً أبيض، ومن فوقه عباءة خليجية، ويغطي رأسه بقلنسوة شبكية بيضاء، ومن فوقها غطرة من اللون نفسه، فأنتم أمام أحد احتمالات ثلاثة، إما خطيب أو إمام، وإما ثري متدين، وإما باحث عن الحظوة بين جموع المتدينين. [caption id="attachment_94342" align="alignnone" width="350"] الداعية السلفي مصطفى العدوي[/caption] قد يتحول الجلباب الأبيض لدى هذه الفئة إلى ألوان أخرى، لكنها لن تخرج عن نوعين من الألوان، إما الأبيض الثقيل (Off white) وما فوق ذلك بقليل، أو الألوان الداكنة، كالرمادي بدرجاته كلها، والكحلي والأخضر الزيتي، والبني المحروق وربما الأسود. المهم ألا يكون اللون فاقعاً أو دالاً على شيء من الميوعة. لكن هذا لا يعني أن المنتمين إلى هذه الفئة يختارون دائماً هذا النمط من الملابس. فهناك من يشتركون مع المتدينين من الدرجات الاجتماعية الأدنى شأناً في الاختيارات، ومنها ارتداء الجلباب الأبيض بدون العباءة فوقه، إذا كان الشخص يعمل في وظيفة لا تعرضه لاتساخ ملابسه بسبب العرق والأتربة، وإلا يلبس ألواناً داكنة تجنبه الحرج. [caption id="attachment_94343" align="alignnone" width="350"] الداعية السلفي ياسر برهامي[/caption] أما إذا كانت الوظيفة لا تسمح له بارتداء الجلباب، كالوظائف الحكومية وشبه الرسمية، ففي غير أوقات عمله، يكون حراً في اختيار الجلباب الأبيض غالباً، إلا إذا كان ذا نزعة جمالية، ويحب التنويع في الألوان. في جميع الأحوال، وأياً كان الوضع المالي الذي لا يميز صاحب الجلباب، بأكثر من جودة الخامة، أو رقي العلامة التجارية، فهناك خاصية يقبل عليها، لا إرادياً، طلاب العلوم الشرعية وحفظة القرآن، وهي إغلاق العروة الأخيرة للجلباب، لتكون الـ"ياقة" محكمة حول الرقبة تماماً.قل "قميص" ولا تقل "جلباب"
يطلق السلفيون على "الجلباب" اسم "قميص"، وينطقونها باللهجة الفصيحة، لأنهم يعتقدون أن كلمة "جلباب" تعني زي المرأة. [caption id="attachment_94345" align="alignnone" width="350"] القميص الباكستاني[/caption] مصطلح "القميص" يستخدمه السلفيون أيضاً لتسمية الزي الباكستاني، الذي يرتديه بعضهم للتحايل على الزي المتعارف عليه، للعمل في مصانع صغيرة ومؤسسات أخرى، خصوصاً الفقراء الذين يضطرون إلى العمل في وظيفة إضافية، ولا يرغبون بارتداء زي "إفرنجي". ويحرص هؤلاء على اقتناء أكثر من قميص بألوان مختلفة، لا تخرج عن الألوان المتعارف عليها بين السلفيين، لكن الأبيض ليس من بينها، لأنه ليس عملياً بالنسبة إليهم. ومن غير الوارد أن يكون للقميص الواحد أكثر من لون، ويراعى لدواعي الأناقة، أن تكون القلنسوة مزينة بخيوط من لون القميص نفسه. هؤلاء جميعاً لا يستغنون عن بعض الأكسسوارات، مسواك وقلم وكيس مناديل، وقنينة عطر من أنواع محددة خالية من الكحول، تبيعها محالّ مخصصة لأدوات المتدينين، أو يعرضها باعة متجولون أمام المساجد، خصوصاً يوم الجمعة. أما نعالهم، فهي مصنوعة غالباً من الجلد، لكن المسافة التي يقطعها الشخص من منزله إلى المكان الذي يذهب إليه، تتدخل لديه لتحدد إذا كان سينتعل حذاءً رسمياً، أو ما يسميه المصريون "الشبشب".جولة على إطلالات المتدينين في مصر... ميولهم المذهبية من خلال ما يرتدونه من ملابس
سلفي، إخواني أم صوفي... تعرفوا إلى انتماء المتدين من ملابسهبعض كبار السن، خصوصاً في الصيف، يحبون التعبير عن زهدهم في الدنيا، بارتداء الجلابيب المخصصة للمنزل، ويدخرون الجلابيب الخليجية للمناسبات الرسمية. لكنهم يتمسكون بالمسواك و"الشبشب" الجلد، والقلنسوة الشبكية البيضاء، التي تتحول إلى اللون الداكن، إذا كان من يرتديها ممن يؤمنون بأن النبي كان "يعتمر عمامة سوداء"، وسوداء لديهم لا تعني اللون الأسود، إنما تعني أي لون داكن.
"التبليغ والدعوة"... كوكتيل ثقافات
هناك سلوكيات تخص جماعة "التبليغ والدعوة"، وهي جماعة وعظ وإرشاد نشأت في الهند، وتتبع إدارة مركزية في بنغلادش. تهتم بترغيب الناس في عبادة الله، بعيداً عن الخلافات الفقهية والفكرية والسياسية. دخلت مصر على يد شخص يدعى إبراهيم عزت، ويتركز نشاطها في جنوب محافظة الجيزة، وتصل قوافلها إلى جنوب القاهرة أيضاً. [caption id="attachment_94347" align="alignnone" width="350"] جماعة التبليغ والدعوة[/caption] وحتى لا يختلط الأمر على الناس في هوية أتباعها، يميزون أنفسهم بالامتناع عن ارتداء الجلباب الأبيض. ويبرر البعض ذلك بأنهم حين يمارسون طقس "الخروج في سبيل الله"، يظلون خارج بيوتهم 3 أيام وليال. فيزيدون تميزهم بارتداء الـ"جاكار" أو الـ"جيليه" الصوف، ذي الأزرار الكبيرة، على أن يكون مفتوحاً من الصدر على شكل v وليس له أكمام، ويغطون رؤوسهم بالغطرة البيضاء أو الملونة، التي يلفونها حول رؤوسهم بما يشبه العمامة الصعيدية، لكن الذؤابة (طرف الغطرة)، تكون طويلة ومسدلة من الخلف. وعلى الرغم من أن أتباع جماعة "التبليغ والدعوة" ليسوا من دعاة العنف، ولا يتحدثون مع الناس بأكثر من أهمية المواظبة على الصلاة في المسجد، وذكر الله، والابتعاد عن "أماكن وجود الشيطان" كالمقاهي مثلاً، فإن بعضهم يحرص على الإمساك بعصا من الخشب، لا تشبه العكاز بقدر ما تشبه "النبوت" المعروف في أدبيات المصريين بأنه سلاح "الفتوة" أو "البلطجي".أزياء الإخوان آخر موضة
بينما لا يجد الكثيرون من عموم المتدينين فكاكاً من استخدام الزي "الإفرنجي" المعتاد، فإن المنتمين إلى جماعة "الإخوان المسلمين" يكونون حريصين على ارتداء هذه الملابس، والتأنق بها، ربما لإعطاء انطباع بأنهم منفتحون على العالم، أكثر من غيرهم من الطوائف المذهبية، ما يجعلهم يحلقون لحاهم في غالبية الأحيان، أو على الأكثر يقصرونها بشكل مبالغ فيه. [caption id="attachment_94348" align="alignnone" width="350"] مرشد الإخوان السابق محمد بديع[/caption] كذلك لا يجد "الإخوان المسلمون" غضاضة في استخدام العطور المخلوطة بالكحول، كعموم المواطنين، لكنك غالباً ستجد في جيب الواحد منهم مطوية "أذكار الصباح والمساء" خصوصاً إذا كان حديث التدين، وهو أمر يشتركون فيه مع السلفيين، الذين قد يحملون أيضاً مصحفاً صغير الحجم، بما يسمح له الدخول في الجيب العلوي.الأشاعرة والصوفية... التمييز للضرورة
الأشاعرة والصوفيون في مصر، على كثرتهم، لا يتمسكون بالزي المعروف عن طائفتهم، إلا إذا كانوا من أصحاب المناصب الدينية. فالأشعري الذي لا يتبع هذا المذهب، إلا إذا كان من خريجي كلية "أصول الدين" بجامعة "الأزهر"، لن يرتدي "العمامة" و"القفطان"، الذي يسمونه في مصر أحياناً "الكاكولا"، ما لم يكن إمام مسجد أو خطيب جمعة. [caption id="attachment_94350" align="alignnone" width="350"] خطباء الأزهر[/caption] الأمر نفسه بالنسبة إلى الصوفيين الذين لا يرتدون العباءة "الساتان"، إلا إذا كان الواحد منهم شيخ طريقة. وفي جميع الأحوال ينتابك إحساس بأن أتباع هذين المذهبين، يشعرون بشيء من الخجل، أو على الأقل عدم الراحة، وهم في الملابس العادية. ولتعويض هذا الشعور، تجد غالباً في يد الواحد منهم سُبحة، لا تكف أصابعه عن إزاحة حباتها بطريقة روتينية. كما أن معظم الصوفيين يختارون ارتداء "الجلابية" المصرية، وربما معها الشال أو "الكوفية" المزركشة.للنساء نصيب في التميز بالزي
وللنساء نصيب من التميز بأزيائهن كذلك، وإن كان التنوع ليس حاضراً كحضوره لدى الرجال. فالسلفيات لا يتخلين عن اللون الأسود لأي قطعة يرتدينها، من الخمار الطويل المسدل من الرأس، حتى الجوربين والحذاء، مروراً بالجلباب أو "الإسدال"، الذي تطور إلى ما يسمى "الملحفة". [caption id="attachment_94352" align="alignnone" width="350"] النقاب ذو الثلاث طبقات[/caption] بالطبع لا ننسى النقاب، الذي صار منذ مطلع الألفية الثالثة، مكوناً من 3 طبقات، الأولى مسدلة إلى الخلف، والثانية تغطي الوجه من منبت الأنف إلى نهاية الصدر، ومن خلف الأنف إلى المكان نفسه من الناحية الأخرى عرضاً، أما الطبقة الثالثة فمهمتها تغطية العينين، وتسمى "البيشة"، وهي تتميز بثقوب ضيقة، لكن تسمح للأنثى بالرؤية من دون أن يتمكن الناظر من النفاذ إلى عينيها. [caption id="attachment_94353" align="alignnone" width="350"] الخمار اللف مع النقاب المصري ذي الطبقة الواحدة[/caption] أما الإخوانيات، فهن مثل رجالهن مائلات إلى التأنق، لذلك يرتدين من الألوان ما يطيب لهن، إلا الألوان الفاقعة كالأصفر والأحمر. ويكون خمارهن ملفوفاً ومثبتاً بالدبابيس. وإذا ارتدت إحداهن النقاب، فإنه يكون على الطراز القديم، من طبقة واحدة، ذا لون يتسق مع بقية القطع. كما أنهن يتبارين في اختيار حقائب اليد، من تصميمات جذابة وألوان فخمة، وقلما يقع اختيارهن على اللون الأسود الذي تلتزم به السلفيات. أما النساء من بقية المذاهب، خصوصاً في الريف والمناطق الشعبية، فيرتدين الجلباب أو "التايير" بألوان رزينة، ومن فوقه يرتدين الخمار التقليدي المخيط، ومن تحته "إيشارب" من اللون والخامة نفسها، ليغطي الشعر بإحكام.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...