ما الذي نعرفه فعلاً عن اللغة العربية الآن؟ بل يمكن أن نسأل بشكل أكثر حدة، هل يمكن أن نضع تعريفاً واضحاً محدداً لما هي اللغة العربية؟ البحث في علوم اللغة العربية يعني زيادة الفضول لا إزالته، ومع كل نبش في تفاصيلها تثار أسئلة أكثر، وهنا محاولة لإشارة سريعة عن واحدة من مميزات اللغة العربية الكبيرة والمهمة وواحدة من أكبر مشكلاتها أيضاً، وهي قوامسيها، أو معاجمها.
في أصل الكلمة
جاء في لسان العرب، في مادة "عجم": العُجْم والعَجَم خلاف العرب والعرب. والعجم جمع الأعجمي الذي لا يفصح ولا يبين كلامه وإن كان عربي النسب. فكيف تحولت المفردة إلى نقيضها في الاستخدام؟ هذه من بين "ألعاب" اللغة العربية، أي استخدام اللفظة في سياق يناقض معناها المعلوم. يقول العالم اللغوي "ابن جني" صاحب كتاب الخصائص إن وزن "أفعل" يستخدم في غالب الأمر الإيجاب حتى وإن كان المعنى على نقيض المتعارف عليه، كأن تقول: أشكلت الكلام، أي أزلت إشكاله، وتقول "أعجمت الكتاب" أي أزلت عنه إعجامه وغموضه. لكن تفسير ابن جني لمعنى كلمة "معجم" كما تستخدم في أشهر قواميس اللغة التاريخية، ليست التفسير الوحيد، خاصة أنه لا تاريخ موثق لأول مرة استخدمت فيها هذه الكلمة بالمعنى المتعارف عليه، فخرجت تفسيرات أخرى تحاول استنتاج السبب. قال "ابن فارس" إن حروف اللغة ما دامت مقطعة، غير مؤلفة تأليف الكلام المفهوم، فهي أعجمية، لأنها لا تدل على شيء. وذهب البعض الآخر إلى أن الحروف سميت أعجمية وقوامسيها معاجم بعد "التنقيط" لأنها صارت غريبة على شكلها الأول. تأويلات كثيرة تحاول استنتاج طبيعة استخدام هذه الكلمة لتكون دالة على قواميس اللغة العربية، خاصة أن استخدامها لم يكن قاصراً على اللغة، بل كانت كلمة دالة على أي "موسوعة" مثل معجم الصحابة للبغوي، والمعجم الكبير والصغير والأوسط في قراءات القرآن للموصلي، ومعجم الشيوخ للبغدادي. أما كلمة "قاموس" فمردها إلى الجذر اللغوي "قمس" وتعني كل ما يُغطى بالماء. وقاموس - على وزن فاعول - تأتي بمعنى البحر أو للدقة معظم البحر لا كل البحر. استخدام الكلمة لم يكن غريباً على المعاجم اللغوية الباكرة، هو نوع من المجاز الدال على الطبيعة الإحصائية لمفردات اللغة العربية وجذورها، فنجد مثلاً الشاعر ابن عباد يطلق على معجمه اسم "المحيط"، والصاغاني "العباب"، غير أن شهرة المفردة أتت من شهرة واحد من أكثر المعاجم العربية شيوعاً وانتشاراً وهو "القاموس المحيط". اللافت أنه حتى وقت متأخر من القرن التاسع عشر الميلادي، كانت كلمة "القاموس" بالتعريف تعني كتاب الفيروزبادي فقط، قبل أن يستخدمها "أحمد فارس الشدياق" في كتابه "الجاسوس على القاموس" ويُعتقد أنه أحد أهم أسباب شيوع استخدامها في العربية المعاصرة، بما يتجاوز إحالتها إلى كتاب الفيروزبادي.أشهر معاجم اللغة العربية
"العين" للخليل بن أحمد الفراهيدي
من المعلوم أن معجم العين هو الأول من نوعه في اللغة العربية، وسماه الخليل بأول حرف بدأ به معجمه. يحكي الأَزهري عن الليث ابن المظفر - وهو أحد تلاميذ الخليل - قال: "لما أَراد الخليل الابتداء في كتاب العين أَعمل فكره فيه فلم يمكنه أَن يبتدئ من أَوّل: أ ب ت ث... لأَن الأَلف حرف معتل، فلما فاته أَوّل الحروف، كره أَن يجعل الثاني أَوّلاً، وهو الباء، إِلا بحجة. وبعد استِقْصاء، تَدَبَّر ونظَر إلى الحروف كلها وذاقَها فوجد مخرج الكلام كلّه من الحلق، فصيَّر أَوْلاها بالابتداء به أَدخلها في الحلق، وكان إِذا أَراد أَن يذوق الحرف فتح فاه بأَلف ثم أَظهر الحرف نحو: أَبْ أَتْ أَحْ أَعْ، فوجد العين أَقصاها في الحلق وأَدخلها، فجعل أَوّل الكتاب العينَ". أي أن الخليل اعتمد في ترتيب حروف معجمه على الترتيب اللفظي بالحروف الحلقية (الهمزة والهاء والعين والحاء والغين والخاء) لكنه رأى منطقاً "جمالياً" في البدء بالعين، لأنه أجمل صوتياً في نظره من الحاء. ورغم ما يقال في الوقت الراهن عن أن "الخليل بن أحمد" هو رمز اللغة القديمة والهجوم عليه من دعاة التطوير باعتباره المسؤول عن جمودها، فإنه بمقاييس عصره كان عالماً نابغة، إذ وضع منطقاً "رياضياً" في ترتيب معجمه. لم يبن بن أحمد المعجم على "حصر الكلمات" إنما في حصر الجذور، ومنها يمكن استنباط الكلام، وهذه الجذور لها تصنيفاتها داخل المعجم بناء على عدة عوامل: أولها مخارج الحروف، فبدأ بالحروف الحلقية كما ذكرنا، وانتهى بالشفوية. واخترع نظاماً سارت عليه معظم المعاجم العربية بعده اسماه "التقاليب" وهو -باختصار - أن يضع أي حرفين أحدهما إلى جانب الآخر، ثم ثلاثة، ثم أربعة ويرى ما يمكن أن ينتج عنها من جذور الكلمات، أي أنه وضع منطقاً إحصائياً قائماً على الاحتمالات في بناء معجم اللغة، وقد فصّل منهج بحثه في مقدمه كتابه. وعلى نظام "التقاليب" سارت معظم المعاجم العربية من بعده.الجمهرة لابن دريد
لم يكن طموح "ابن دريد" كما فعل الخليل بن أحمد في أن يحصر كل كلام العرب، بل "اخترنا له الجمهور من كلام العرب، وأرجأنا الوحشي المستنكر" كما قال في مقدمته، وبهذا المنطق جاءت تسميه كتابه. يعتبر معجم ابن دريد أول معجم بعد العين لا يعتمد على الترتيب الصوتي للحروف، بل على الترتيب الألفبائي المعروف، مع الحفاظ على نظام "التقاليب" الإحصائي، ومنطقه في ذلك أنه سيكون أسهل في البحث من النظام الخليلي الذي صار صعباً على باحثي اللغة في وقته. ورغم التجديد في ترتيب فصول الكتاب، فان أثره كبير في مسار التوثيق اللغوي، كما في كتاب العين، أو في كتب تالية عليه، إلا في اعتماد من أتوا بعده على النظام الألفبائي بديلاً للصوتي.الصحاح للجوهري
تخلى الجوهري في معجمه عن النظام الصوتي واعتمد على النظام الألفبائي الذي سنه ابن دريد، كما تخلى عن "التقاليب" تماماً، واعتمد على "حصر" المفردات. يطلق على طريقة ترتيبه "القافية" لأنه اعتمد في ترتيب المفردات على حرفها الأخير، لا الحرف الأول كما جرى العرف. سمى الجوهري معجمه الصحاح لأن تركيزه الأساسي كان على ما ثبتت عنده صحة نسبته إلى الفصحى. أهم ما يميز الصحاح أمران: أنه أول معجم اعتنى بتشكيل الكلمات، وهو الأمر الذي لم يكن معتمداً في المعاجم السابقة عليه، والثاني أنه أوكل عناية خاصة بتاريخ المفردات وتأويلاتها، فذكر منها المتروك، والمستقبح، والمُعرّب، فهو أول من قال بأن كلمات مثل: مهندس، دولاب، وصك هي كلمات معربة.لسان العرب لابن منظور
أشهر معجم عربي على الإطلاق، ربما لأن "ابن منظور" أراد أن يجمع كل ما يستطيع جمعه من اللغة. واللغة في عرف ابن منظور ليست الجذور والكلمات فقط، بل إنه توثيق لتاريخ هذه اللغة وحياتها عبر رواتها وأشعارها وحكاياتها. يقول الشدياق في "الجاسوس على القاموس" عن لسان العرب إنه "كتاب لغة وفقه ونحو وصرف وشرح للحديث وتفسير للقرآن، وإن المادة التي تستغرق سطراً مثلاً في القاموس، قد تزيد في اللسان على مئتين وخمسين". وإذا كان ابن منظور اعتمد نظام القافية مثل الجوهري في ترتيب كلمات معجمه، فإنه لم يحرص على تدوين ما صح عنده، بل اتسع ليضم كل ما نطق به ليكون في جسم اللغة. ربما هذا الزخم ومرونته في تنفيذ مفهوم أكثر شمولاً عن ماهية اللغة العربية هما اللذان جعلاه المعجم الأشهر، بل أحياناً يشار إليه باعتباره "المعجم" الذي تعتمد عليه اللغة.القاموس المحيط للفيرزوبادي
هو واحد من أشهر معاجم اللغة أيضاً، اعتمد مثل ابن منظور على نظامي القافية والترتيب الألفبائي، لكنه عمد إلى الاختصار، متخلياً عن الحكايات والاستشهادات والاستطرادات، جاعلاً من مادة كتابه مكثفة، وعملية أيضاً. دائماً ما يشار إلى كتاب القاموس المحيط باعتباره واحداً من كتابين هما المرجع في اللغة ولسان العرب، إن كان استخدام القاموس المحيط أكثر انتشاراً من اللسان، لسهولة البحث فيه.المعجم الوسيط
هو قاموس مجموع اللغة العربية في القاهرة، اعتمد المعجم على النظام الألفبائي مع مجموعة من القواعد المنظمة للترتيب، مثل أنه اعتمد الأفعال قبل الأسماء، والأفعال اللازمة على الأفعال المتعدية، والمعنى الحسي على المعنى المجرد. المميز في هذا المعجم هو اعتماده الكثير من الكلمات العصرية (بدأ العمل فيه سنة 1940) وأسقط الكثير من الكلمات المهجورة التي لا استخدام لها في العصر الحالي. باختصار هو المعجم الذي كان إنتاجه ضرورياً لمواكبة العصر.المعاجم المتخصصة
وهي المعاجم التي تهتم بحقل من الحقول العلمية، وتعنى بتفسير مصطلحاتها، مثل المعجم الطبي والاقتصادي والقانوني وغيرها، كذلك مثل معجم المصطلحات الهندسية لأحمد شفيق خطيب، وقاموس إلياس الطبي، والمعجم العكسري الموحد الصادر عن جامعة الدول العربية.ماذا عن المعاجم الناقصة؟
لا يتذمر المعنيون باللغة من شيء أكثر من احتياجهم إلى معجم خاص بتاريخ الكلمات العربية، وتطور معانيها. ورغم تعدد المجامع العربية، فإن الجهد الذي طال انتظاره لم يحدث حتى الآن، رغم محاولات جمعية المعجمية التونسية ومعهد الدراسات المصطلحية بفاس في المغرب، ومجمع اللغة العربية في مصر. إلا أن هذه الجهود لا تأتي بهدف تنفيذ قاموس تاريخي للغة العربية، بقدر ما تكون داخل مشاريع أخرى. لا توجد محاولة عربية فعلية لإنتاج قاموس مثل قاموس تاريخ الكلمات الذي تصدره أوكسفورد. في عام 2013، أعلن المركز العربي للدراسات بالدوحة عن تأسيس مشروع "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية" بغرض ملء فراغ المكتبة العربية، وما زال العمل في هذا المشروع جارياً.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يوممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 4 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي