شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
الأمم المتحدة في بيتنا

الأمم المتحدة في بيتنا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأحد 24 يوليو 201606:52 م

عندما كانت جدتي (فاتي) تأتي إلى حلب لزيارتنا قادمة من دمشق، فإن أبواب السعد كانت تفتح لي.

كانت تقضي كل رمضان وعيد عندنا، تتخللها زيارة إلى بيت عمتي في الأشرفية. كانت حارتنا صلاح الدين في حلب حارة أبطالها الأطفال والمراهقين. كنا نحكم هذا الحي بكل ما نملك من ألعاب بريئة وخبيثة، شريرة وطيبة، وكان وجود جدتي في البيت يمنع والدي من ممارسة حواره الإعتيادي معي، ألا وهو الضرب من أجل مستقبل أفضل.

لذلك فإن أبواب السعادة كانت تُفتح على مصراعيها بوجود جدتي، فهي الحنونة اللطيفة التي تبكي إذا ما مدَّ أبي يده علي، وأبي لا يجرؤ على فعل ذلك أمامها، وأنا أمارس كل المخالفات الممكنة في فترات وجودها.

إن شهر رمضان بالنسبة لي هو شهر الحرية والديمقراطية والحوار السلمي، لا صفعات في هذا الشهر بوجود جدتي، لا رفسات، لا لحلاقة الراعي قتلة والدي المفضلة، وهي عبارة عن فرك لشعري من ناحية الصدغين، وهي أعتى وسيلة تعذيب أواجهها عادة من قِبل الوالد العزيز.

لا يحمل والدي عصاً، ولا يستخدم القشاط كغيره من آباء زملائي بلاليع العيلة المنتشرين في أنحاء البلاد. فأبي يستخدم يديه فقط، وهو ليس كبعض آباء زملائي المراهقين ممن يبرمجون عقوباتهم العنيفة كي تأتي بثمارها المحددة، لا، أبي من جماعة القصف العشوائي عند الغضب، لكنه للأمانة يمتلك حرصاً لا شعورياً يجعلني أؤكد بأنني لم أتعرض إلى أذى جسدي أو عاهة مستديمة بسبب قتلاته.

صحيح أن والدي لم يكن يمتلك خطة لضربي، لكن الصحيح أيضاً أنني كنت أخرج سالماً من بين يديه دائماً، إلا أن الروح كانت تتأذى قليلاً بسبب الشعور بانحطاط القدر، لذلك كنتُ أعالجها برومانسيتي غير الخلاقة، فأجلس في الظلمة وحيداً وأتخيل نفسي منتحراً وأهلي حولي يبكون، وأبي يشعر بالندم الشديد بسبب أخطائه بحقي، وفي الصباح يتم محو رومانسية الليل، فأهرع من أربعتي إلى الشارع، مكاني المفضل، وملاعب طاقاتي الكامنة، ناسياً قتلة البارحة تماماً كما نسيها جميع من ألعب معهم.

نعم، كلنا نتعرض للضرب من قبل أهالينا، حتى أمهاتنا يضربننا، لكن نوعية الأسلحة لدى الأمهات تختلف عن أسلحة الآباء. أمي تستخدم سلاحها الفتاك ألا وهو الشحاطة البلاستيك، أو الزنوبة، وهذه الشحاطة تفعل فعلاً سحرياً بالجسد، فهي تلط لطاً على مساحة واسعة مما يمنع عن الجسد الأذى، وبسبب بلاستيكيتها فهي تتمتع بالمرونة، هذه المرونة هي التي تجعل من الشحاطة سلاحاً مسموحاً به دولياً في البيوت الشرقية. أما الضرب بالقبقاب أو البابوج، فهو يتسبب بعاهات مؤقتة، كظهور نبيرة على الرأس، والنبّيرة هي ورم مؤقت يظهر على رأس المراهق المتمرد أو الطفل المشاغب نتيجة تعرضه لضربة محكمة بالبابوج أو القبقاب.

الحمد لله أن أمي لا تستخدم سوى الشحاطة، إضافة إلى القرص والعض في حالات الغضب الشديد الذي يودي بحنان الأم في خبر كان.

كانت جدتي بابتسامتها الوديعة تستقبل مجيئي بالتماعة في عينيها تمنحني كل الأمان المطلوب لإكمال النضال في الشارع من جديد. جدتي هنا، وأنا أدخل البيت محاذراً أن ينفرد بي أبي عند الباب، وحال وصولي أجلس بجانبها، أبي يرمقني بغضب مكبوت، وأنا أطيلسُ على الجريمة النكراء التي ارتكبتها لتوي وذاع خبرها في البيت عبر أخواتي البنات وكالات الأنباء المعتمدة بشكل رسمي في المنزل.

لقد شارك رفاق السوء في طرق أبواب بيوت الجيران والهروب، لقد سرقوا بطيخاً أحمر من بقالية أبو اسماعيل، كما سرقوا بسكليت أجير الفران مراد ولم يعيدوه إلا مكسراً، كسروا بللور بيت أم ابراهيم الماردلية فخرجت تشتم أمهاتهم وآبائهم واحداً واحداً، يستشيط الوالد غضباً لكنه لا يستطيع فعل شيء، فجدتي ترعاني أيما رعاية. يحاول والدي استدراجي إلى الصالون عساه يطرق رأسي بعقدة أصبعيه على الأقل، لكن لا جدوى، فأنا لن أتزحزح من كنف جدتي، يكز والدي على شفتيه بقهر وهو يرمقني متوعداً، لكن شعرة من رأسي لا تهتز، فوضعي في اللوج الآن، بل وفي اللوز أيضاً، فها هي جدتي تناولني ليرة بالتمام والكمال، ويجن جنون أبي!

أن أفلت من العقاب أمر مقبول نوعاً ما أمام ما أجنيه من هدايا ومكافآت أيضاً. أخرج من البيت دون اكتراث بصوت أبي وهو يأمرني بالبقاء، ولمَ أسمعه وجدتي هنا. أنا حر بفضل حماية جدتي الدولية، بفضل الحظر الجوي والبري التي فرضه وجودها علي، لكن دوام الحال من المحال، فها هي جدتي تستعد للمضي إلى بيت عمتي لأسبوع كامل، ويا ويلي من ظلام ليلي في هذا الأسبوع، سيعود القصف العشوائي، ستعود الشحاحيط، سيعود القرص والعض، ستعود حلاقة الراعي… لكن أخوكم لا يعدم الحيلة، سأمضي مع جدتي، وهكذا أقضي أسبوعاً من الحرية في حي الأشرفية وأعود غانماً بالدحاحل البللورية التي كسبتها من الأولاد هناك.

ويأتي العيد، عيد دون عقوبات غبية، دون عنف، دون تأنيب، فتُفتَح أبواب السينما لي، تُفتَح الملاعب، أعود متى أشاء، فجدتي هنا، الأمم المتحدة في بيتنا، ثم أودع جدتي وهي تعود إلى دمشق بدموع سخية، فتعانقني وهي تعتقد أنني حزين لفراقها، بينما يعلم كل من في البيت لمَ تساقطت هذه الدموع الإستباقية. ينطلق باص جدتي، ويبدأ كرنفال الضرب والعقوبات غير الذكية والقصف العشوائي على جسدي النحيل الذي يحتمِل ويحتمِل.

تم نشر المقال على الموقع بتاريخ 20.05.2014


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard