على طُرق مصر السريعة، وسط سيل من العربات لا ينقطع، يقف أشخاص ينظرون في جميع الاتجاهات. هم لا ينوون الانتحار جماعياً تحت عجلات سيارات لا ترحم، بل يعملون على تحسين وضعهم المالي في ظل تدهور الاقتصاد المصري. بعضهم يحمل الأطعمة أو وسائل التسلية مثل الترمس والجزر والذرة المشوي، وآخرون يحملون لوازم العربات من مناديل ومناشف ودعاسات وغيرها. ينتظرون إشارة من أي مسافر ليشتري البضائع منهم. يقول المصريون عن أنفسهم أنهم "أساتذة" في فن ابتكار طرق كسب الرزق. فأينما ذهبوا ومهما كانت الظروف، سيجدون حاجة ويبتكرون عملاً يلبيها. وهو ما يفعله مئات من الباعة المتجولين الذين اتخذوا من الطرق السريعة مقراً لهم، والذين يزداد عددهم كلما ازدادت الأحوال الاقتصادية في بلد التسعين مليون اختناقاً.
من هم هؤلاء الباعة ومن أين جاءوا؟
تعاني مصر من أزمة اقتصادية طاحنة، حيث بلغت نسبة الفقراء فيها 27.8%، بحسب أحدث تقارير المركزي للتعبئة والإحصاء، وهم الأفراد الذين يبلغ معدل دخلهم الشهرى 482 جنيهاً مصرياً (54 دولاراً). وقد ارتفع عددهم كنتيجة لزيادة معدل التضخم، الذي قفز من 10.6% في أغسطس 2015 إلى 16.4% في أغسطس 2016. وارتفعت أيضاً نسبة البطالة إلى 12.8%.يدفع هذا الوضع الكثير من الشباب للبحث عن مصادر دخل مختلفة، البيع على الطريق السريع هو أحدها. أسامة أحدهم. هو شاب في الخامسة والثلاثين، وأب لثلاثة أبناء بمراحل تعليمية مختلفة. يقف على طريق القاهرة - الإسكندرية الصحراوي بملابس صيفية متواضعة، رغم برودة الجو، ليبيع الترمس للمارة. كان يعمل بناءً ويجني ما يكفيه وعائلته من المال ليعيشوا عيشة ميسورة. ولكن "مع ارتفاع أسعار الأراضي ولوازم البناء توقف الحال وجلست بالمنزل أكثر من ثلاثة أشهر ولم أجد بُداً من الخروج للطريق السريع حيث أبيع الترمس للمسافرين"، يوضح أسامة. اختار هذا المكان لأن المدن والقرى مليئة بمنافذ البيع والدكاكين، ومن الصعب أن يجد عملاً في هذا المجال. أما الطريق، فهو طويل وممتد، يوفر للمسافرين عليه السلع التي قد يحتاجونها، سيما الطعام والشراب في ساعات الازدحام. أما سليم، 24عاماً، فكان يعمل نقاشاً في صعيد مصر حيث نشأ. هو شاب نحيل جداً احترقت بشرته بفعل الشمس، وتجعدت رغم صغر سنه. اضطر مع سوء الأحوال الاقتصادية للانتقال إلى طنطا، شمال القاهرة، حيث يبيع لوازم السيارات على طريق القاهرة مع شقيقه فارس الذي يصغره بعامين واثنين من أبناء عمومته. "لم نعتد الجلوس بلا عمل في الصعيد لذا انتقلنا خلف أكل عيشنا، ابن عمي مهندس مساحة والآخر كان ميكانيكياً وأخي كان نجاراً وانتهى بنا الأمر بالبيع على الطريق وهو عمل شريف ينفق على أسرنا"، يقول سليم.
المضطر يركب الصعب
"الأزمة في مصر ليست عدم وجود عمل، المشكلة أنك غالباً ما تضطر للاشتغال بغير تخصصك لسد حاجتك وحاجة أسرتك"، يقول شقيق سالم، فارس (22 عاماً). وكان الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء قد أكد في تقريره السنوي الذي صدر في مايو 2016، أن معدل البطالة الإجمالى بين (15-64 سنة) وصل إلى 12.7% من إجمالى قوة العمل، بينما كان 12.8% في كل من الربع السابق ونفس الربع من عام 2015، وأن معدل البطالة بين الشباب بين (15- 29 سنة) وصلت 27.3%.البائعون المتجولون على الطريق السريع في مصر... عمل يكاد يكون انتحاراً
"ليس هيناً أن أقف 10 ساعات متواصلة تحت الشمس، أنادي على الذرة، لكن ما باليد حيلة" عن حياة البائع المتجوليحارب سعيد هذه البطالة رغم صغر سنه. هو في السادسة عشر من عمره، ويدرس في مدرسة للتعليم الصناعي. يعمل في الوقت ذاته لدى ابن خالته، ويبيع الجزر له على الطريق المواجه لقريته بالقرب من طنطا. يعلل ذلك قائلاً: "تكاليف الحياة أصبحت غالية جداً ولدي أربعة أشقاء ووالدي مجرد عامل، لذا أسعى لتوفير مصاريفي ببيع الجزر من الصباح وحتى المساء مقابل 50 جنيهاً يومياً".
من هب ودب
للباعة المتجولين نقابة كما لأي مهنة أخرى، تراعي أمورهم وتتابع مشاكلهم وشكواهم. ويقول محمد أدهم، نائب رئيس هذ النقابة أن البائع شخص يبحث عن الزبون أينما كان ويختار السلعة التي تناسب المكان ومتطلبات المارين به. وهو لم يعد مرغوباً به في ظروف البلد الحالية، فهو مطارد من الداخلية وشرطة المرور أينما ذهب. مما دفع الكثيرين للتوجه لطرقات السفر السريعة، حيث يصعب على الشرطة إيقافهم، وحيث تزداد في الوقت نفسه مخاطر الدهس والتعرض لحرارة قاسية في الصيف وبرودة مميتة في الشتاء. "هي ظروف عمل قاسية، بخلاف أنهم لا يحصلون على أي تأمين أو رعاية لعدم إدراجهم تحت أي كيان مؤسسي أو حكومي، لكن أكل العيش يحكم"، يقول أدهم. ويرى أن أحوال البلاد المتدهورة جعلت "من هب ودب" يعمل بائعاً. "العاملون بالسياحة والفنادق عندما تدهورت مهنتهم لجأوا لافتراش الطرقات بحثاً عن مورد رزق، وكذا المشتغلين بالمصانع والشركات التي أفلست أو قلصت عمالتها وحتى هؤلاء الذين عادوا بخفي حنين من الدول العربية لتداعيات سياسية أو عسكرية مثل ليبيا وقطر وغيرها"، يوضح أدهم.المضطر يركب الصعاب
الحاج ربيع، والذي تجاوز السبعين منذ سنوات قليلة، هو أحد من انتسب لهذه المهنة في سن متأخرة، بعدما لم يعد مرتب نهاية الخدمة ومساعدات أبنائه تكفيه."ظروف المعيشة أصبحت قاسية للغاية ومع ارتفاع أسعار كل شيء، أشفقت عليهم (أبناؤه) وأصبحت مضطراً للخروج للعمل، واتجهت للطريق أنا وزوجتي حيث تقوم هي بشوي الذرة وأبيعها أنا بين السيارات. ويتابع: "ليس هيناً ، في هذا السن، أن أقف 10 ساعات متواصلة تحت الشمس والأتربة والهواء والمطر أنادي على الذرة، لكن ما باليد حيلة".يقول المصريون عن أنفسهم أنهم "أساتذة" في فن ابتكار طرق كسب الرزق... مهما كان فيها من مخاطرة
تحديات المهنة
الوقوف في الشارع للبيع ليس بالأمر الآمن وللمهنة تحديات ومخاطر يعيشها البائعون يومياً. "في البداية كان ظباط المرور يطلبون رفع البضاعة من منتصف الطريق بحجة أن ذلك يعطل سير السيارات، لكن مع الوقت أصبحوا يتعاطفون معنا ويتركوننا "ناكل عيش"، يقول أسامة. يقول سعيد أنه مضطر للوقوف في منتصف الطريق، وإلا لن ينتبه أحد لوجوده ولن يبيع بضاعته. ولا يعبأ بعض قائدي السيارات لأرواح الباعة ويعاملونهم على أنهم متسولون. وقد دهست سيارة مسرعة قدمه في إحدى المرات، فأحدثت شرخاً بها وأبقته في الفراش لمدة أسبوعين. "ربما كان الوضع أسوأ لو لم تكن السيارة المجاورة لي متوقفة" يضيف سعيد.مزايا لا يستهان بها
رغم تلك الصعاب، يرى سليم أن العمل على الطرق السريعة أمر ممتع ومربح في الوقت ذاته. "فزبون" الطريق مرتاح، ويدفع أي سعر تطلبه دون "فصال"، كما أن المنافسة تكاد تكون غير موجودة، حيث يتوزع الباعة على مسافات بعيدة جداً، ويقدم كل واحد سلعة مختلفة عمن يسبقه. "نزيد على سعر البضاعة 5 جنيهات أو أكثر حتى نحقق ربحاً يعوض الجهد والمشقة التي نبذلها، وكلما زادت الأسعار نضطر لرفع القيمة بالمقابل، والزبون يقبل لأنه يعلم أنه خارج عن إرادتنا"، يستطرد سليم. أما فارس ورفاقه فيؤكدون أن متوسط ما يجنيه كل فرد منهم هو 150 جنيه يومياً. ويعتبر هذا المبلغ جيداً بالنسبة للأعمال الأخرى التي امتهنها وخاصة مع تدهور أحوال البلاد الاقتصادية وضعف الرغبة الشرائية لدى المواطنين. ويؤكد أسامة أن مكسبه اليومي بعد حساب ما ينفقه على إعداد الترمس يتراوح بين 70 إلى 100 جنيه، وهو مبلغ بسيط في نظره مقارنة بما يتحمل من مشقة وجهد.دخلاء؟
للنقابة والعاملين فيها رأي في الكثير من بائعي الطرقات السريعة. فيعتبر أدهم أن أغلبهم دخلاء على المهنة، يعملون بها بشكل مؤقت، في الوقت الذي يمتلك أغلبهم شهادات عليا أو "صنعة" أخرى يتكسب منها. نسبة لا تتعدى 1% فقط من هؤلاء الباعة منضمون للنقابة، أما البقية فلا ينتسبون لها إما لأنهم يفرحون بالربح الذي يحققونه يومياً ولايفكرون على المدى البعيد، أو لأنهم عاقدين العزم على العمل كباعة بشكل مؤقت، لحين تحسن أوضاعهم وأوضاع البلاد المادية. كما أن الكثير منهم ينظر لمهنة البائع باستعلاء، بل ويعادلها بعضهم بالتسول، سيما ذوي الشهادات العليا منهم. وهو ما يدفع بعضهم للبيع على طرق بعيدة، لا يعرفهم فيها أحد، خشية أن يسببوا لذاتهم أو لعائلتهم عار. ويرى أدهم أن هذه النظرة للمهنة القديمة خاطئ، فهي مثلها كمثل أي عمل شريف آخر. لذا لا بد من تقنين العاملين فيها وإيجاد صيغة قانونية لدمجهم في النقابة ولو بشكل مؤقت، حتى تنتفع منهم البلد ويُقدَم لهم الدعم والحماية. ملاحظة: فضل الباعة عدم ذكر اسمهم الكامل.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...