في كتابه "فيزيولوجيا الذوق"، أخرج المحامي والسياسي الفرنسي "جان أنتيلم بريلات - سافارين" مقاربة الطعام من الإطار المادي البحت ليضعها في إطار فلسفي - فني.
كان ذلك في أوائل القرن التاسع عشر، وكان سافارين من أوائل من جعلوا الطعام فناً خارج إطار الوصفات التقليدية، فوضعه كمعيار أساسي لتوثيق ثقافة شعوب دون أخرى، بل أكثر من ذلك لدراسة علاقة الإنسان بمحيطه وبالله.
بالنسبة له، كان الطعام ونوعه وتنوعه بطاقة هوية لكل فرد حين قال "قل لي ماذا تأكل، أقل لك من تكون". ولأن "عالم النكهات لا ينتهي"، رأى سافارين في الطعام قوت الحياة وقوّتها، وفي "اكتشاف كل طبق جديد سعادة للإنسانية تضاهي اكتشاف نجم في السماء".
صراع الأطباق
مع الزمن، احتلت الـ"Gastronomy" (فن الأكل) مساحة في النقاشات العلمية والأدبية، وتباهت شعوب على أخرى بما ابتكرته وما قدمته للإنسانية.
في أحيان أخرى، كانت أطباق بعينها مثار صراع بين دول أرادت الاستئثار بطبق تقليدي لنفسها، ليصبح الطبق أداة صراع هوياتية بين محتَلٍ ومحتل، بين اكتساب هوية غير موجودة وتدمير هوية أخرى، كما حصل في الخلاف حول الفلافل بين العرب وإسرائيل.
تقول الباحثة في علوم الطعام لوسي لونغ إن الأخير محدد رئيسي للإرث الثقافي للشعوب، أما دوره الأبرز فهو اشتراكه في كسر الحواجز بين الثقافات المختلفة والأناس الآتين من بيئات متناقضة.
كل ذلك لأن البشر جميعاً يشتركون بفعل الطعام، ولأن "الساعة الأولى من الطعام تتميّز دون غيرها من النشاطات بخلوها من الملل أياً كانت الظروف".
كان ذلك أساس المشروع الذي عملت عليه أستاذة الفنون والفولكلور الأمريكية، فجمعت أناس من آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا الشرقية وغيرها من المناطق لتعرض الاختلاف بين الشعوب من خلال أطعمتهم، ولتؤسس أرضية مشتركة لفهم هذا الاختلاف والإفادة منه.
هذا المشروع الذي يعود للعام 2014، قررت لونغ وضعه في مكتبة الكونغرس كوثيقة لدراسة الشعوب.
الشوكة بين الأوروبيين والعرب
حازت العادات الغذائية للشعوب على اهتمام الكثير من علماء الاجتماع والأنتروبولوجيا، فربطوها بالظروف المحيطة بكل مجتمع كعالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو الذي كتب موضحاً "التلذذ بالطعام وطهيه كما شكل تقديمه ينبع من خبرة الفرد المكتسبة من طبقته الاجتماعية ومستوى تعليمه ووظيفته، حتى أن الطعام الذي يختاره يفسر تلك الملامح ذاتها".
يستعيد أستاذ العلوم السياسية في جامعة "جورج تاون" مأمون فندي في إحدى كتاباته قصة استخدام الأوروبيين للشوكة والسكين في طعامهم مقابل اعتماد العرب على الأكل بأيديهم، وما تحمله هذه الصورة من نظرة تعالي طبقية وثقافية على العرب.
يعطي فندي للأمر بعداً مناخياً فيفسره بأن الأوروبيين من المناطق الباردة كانوا يتجنبون غسل أيديهم بالماء لشدة برودته، بينما حظي العرب في مناطق بمياه دافئة ولم يكن يضيرهم غسل أيديهم عدة مرات في اليوم.
وفي كتابهما "سياسة الطعام والمشاكل الإقليميّة"، يصف الباحثان مايكل كاري ودايفيد بالام الطعام بأنه "سلعة سياسية"، كما رأيناها تدخل في معرفة شخصيات الرؤساء والحكام من خلال ما يتناولون من أطعمة.
هكذا نتابع المقابلات المسربة مع طهاتهم بكثير من الاهتمام، ويحرص بعضهم عند زيارة بلد معين على التذوق علناً من أطباقه التقليدية كدليل احترام وكسر للحواجز.
الآيس كريم فارسي
في ما كتبته مؤخراً، استحضرت المدونة الإيرانية لويزا شافية قصة أصول الآيس كريم الفارسية بمواجهة قرار المنع الذي فرضه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على جنسيات عدة من بينها الإيرانية.
كتبت شافية بأن الآيس كريم، وهو الأكثر استهلاكاً لدى الأميركيين مقارنة بدول العالم، هو للمفارقة فارسي.
رأت في ثقافة الطعام لدى شعب وتأثيرها على شعوب أخرى، وسيلة دامغة للاعتراض على الحواجز التي تضعها السياسة أمام الشعوب، كما لجأ آخرون، من جهتهم، إلى استعادة أصول تأثير الفن والتكنولوجيا والاقتصاد الآتي من هذه الدول على أمريكا، كالحديث عن جذور ستيف جوبز السورية.
تقول في قصتها إنها وجدت في مدينة شيراز الإيرانية مكاناً لبيع البوظة هو مكان أحلامها. هناك تتحدث عن البوظة الإيرانية وعن مكون الزعفران الأساسي فيها. في السابق، كان اسمها "باستاني" بأساس الفستق، ومع دخول الزعفران إليها أصبح اسمها "أكبر مشتي"، نسبة إلى أول شخص افتتح محلاً لبيع البوظة في العاصمة طهران.
وبينما لم يكن الأمر غريباً بالنسبة لها ولرفاقها الإيرانيين، تعلق شافية بالقول إن ربط الشرق الأوسط بالآيس كريم يبدو مفاجئاً لكثيرين. تشرح أن الآيس كريم انتقل إلى أوروبا، وبعدها إلى أمريكا، من خلال العرب الذين أخذوه معهم إلى جزيرة صقلية الإيطالية في القرن الثامن.
والعرب، حسب شافية، كانوا قد أخذوا المنعش الفارسي التقليدي واسمه "شربات"، وهو مزيج من عصير الفاكهة والعسل والثلج وأضافوا إليه الحليب والسكر.
في الواقع، لا تحظى أصول الآيس كريم بإجماع على قصة واحدة. ثمة رواية بأن أصله صيني يعود إلى حوالي ثلاثة آلاف سنة عندما كان أباطرة الصين يحضرون الثلوج من الجبال ويخلطونها بالفواكه المختلفة والعسل. ويرى دعاة هذه القصة أن الرحالة مارك بولو أحضر خلطة الآيس كريم لاحقاً من الصين إلى إيطاليا.
بالنسبة للإيطاليين فإن الآيس كريم هو جزء أساسي من ثقافتهم، بينما تكتسب رواية ابتداع الفرس له رواجاً واسعاً، ولها أصول تاريخية يحتفي بها موثقون كثر ويتحدثون عن تطوره لاحقاً في بلاد الشام.
أياً تكن جذور انطلاق رواية الآيس كريم الفعلية، لكن شافية تؤكد على أنه يمثل تأكيداً إضافياً على تأثير المهاجرين على أمريكا. وتروي بناء على أبحاثها قصة المهاجر السوري إرنست (أنيس) حموي الذي ينسب إليه اختراع قرن البوظة في العام 1904 في معرض سان لويس الدولي، عندما لف الزلابية الخاصة به.
كما يروي مؤرخون آخرون عن إقدام حموي على مساعدة جاره الأمريكي، بائع البوظة، الذي استهلك جميع صحونه في المعرض فصنع له السوري المهاجر إناء جديداً يمكن الأكل منه، وأكله، دون استخدام المعالق والصحون.
وقد أسس حموي لاحقاً شركة لهذه الصناعة في العام 1910، وتوفي في أمريكا في العام 1954 بعدما حقق نجاحات كثيرة. واليوم، تقول شافية، يجلس الكبار والصغار في المنتزهات الأمريكية وهم يتناولون البوظة من هذه القرون ويستمتعون بأوقاتهم.
مع الوقت، تتابع شافية، ابتكر الإيرانيون الذين يعيشون في بلاد حارة أشكالاً مختلفة للبوظة، ولحفظها، واليوم نجد الكثير من أنواع البوظة الفارسية في لوس أنجلس حيث يتجمع العدد الأكبر من الجالية الإيرانية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين