ذهبت البابية أبعد ما يكون في لهفتها لظهور "الإمام المهدي صاحب الزمان"، إلى الحدّ الذي أنسلخت فيه بقرار قصدي حماسي جذري عن أرضية التشيع الإيراني الذي منه أنطلقت.
لسنوات قليلة، قبل منتصف القرن التاسع عشر، بدت هذه الحركة الفتية تتنامى بين الناس، وتكسب نخباً حيوية إلى جانبها، في إيران، وتعكس على طريقتها أزمة الدولة القاجارية، ومآلات التحرّق شوقاً واستعجالاً لظهور الإمام المهدي.
طبع الشوق لظهور المهدي تلك الفترة أكثر من سواها، وغذّته المدرسة المعروفة بـ"الشيخية" نسبة إلى الشيخ أحمد الأحسائي (توفي 1826). فالأحسائي استمزج المرويات الشيعية الأخبارية الضعيفة السند، لتشكيل نظرة خاصة بهذه المدرسة تقوم على اعتبار المعصومين الأربعة عشر (النبي وفاطمة والأئمة الاثني عشر) مختلفين في الصورة، متحدين في الحقيقة، وأنّها حقيقة مستمرة في التجلّي في كل عصر ودور.
وبعكس ما يراه أغلب الشيعة الإثني عشرية، قال الأحسائي بأنّ الإمام الثاني عشر، ابن الحسن، مات بالفعل، وبأنّ المنتظر ظهوره ليس هو بالجسد الأرضي المادي الذي رحل، بل بالجسم اللطيف الروحاني الذي يقيم في السماء لا في الأرض، لكنه يتجلى ويظهر في كل زمان، وخصوصاً في زمن الغيبة الكبرى، من طريق النموذج الواسطة إليه، الذي يمكن أن يقال عنه "الإنسان الكامل" أو "المؤمن الكامل" أو "الشيعي الكامل" أو "الباب".
بعد وفاة الأحسائي، سيجذّر كبير "الشيخيين" سيد كاظم الرشتي هذه النظرة، بحيث لا تكتفي بانتظار تجلّ جديد للإمام، لا نعرف تشخيصه فيه كإمام، بل انتظار تجلّ مهدوي يعلن انتهاء الغيبة الكبرى لصاحب الزمان. مات كاظم الرشتي (1843) قبل أن يدرك أن شخصاً لم يتابع علومه الدينية بشكل منتظم، سينهل من تعاليم الشيخية، ويوظّفها في اتجاه إطلاق حركة متمركزة حوله.
من باب للإمام إلى نبي جديد إلى أكثر
الشخص هو "سيد علي محمد"، من مواليد بوشهر. وأخصام البابية عادة ما يبدأون الحديث عنه بالطعن بنسبه إلى آل البيت، في حين يصرّ أتباعه على تحدّره بالنسب من الأئمة. آثر بدايةً الاشتغال في التجارة في مدينة شيراز، ثم أخذ ينخرط في المناظرات الدينية والسياسية، في عصر كان يتوسع تأثير المدرسة الشيخية في إيران والعراق وشرق الجزيرة العربية.البابيّة، حركة انفصلت عن التشيع الإيراني وأعلن مؤسسها أنه باب للإمام المهدي المنتظر، بل نبي جديد وأكثر
تعرفوا إلى "قرة العين"، المرأة البارزة في الحركة البابية وشاعرتها وأول مناضلة نسوية في الشرق الأوسط..[caption id="attachment_91265" align="alignnone" width="342"] علي محمد الشيرازي[/caption] سيعرف علي محمد الشيرازي كيف يشكّل حلقة من المريدين حوله، ويعلن من خلالهم أنه الواسطة بين البشر والغيب، إلى اليوم الذي أعلن فيه أنّه "الباب" إلى الإمام الغائب، متّصل به لا كاتصال بين شخصين منفصلين. النجومية السريعة للشاب ترافقت مع إجادته اللغتين العربية والفارسية، وبراعته في الخط، وتحوّله إلى نقطة تقاطع لمغامرين كثر أخذوا يشعرون بثقل المؤسسة الدينية، وبأزمة الأسرة الحاكمة. بعد أشهر قليلة على وفاة كاظم الرشتي، سيتحوّل الشيراز إلى القطب الصاعد بين الشيخيين، ويفاجىء الجميع، في يوم انقضاء ألف سنة بالتمام على غيبة الإمام الثاني عشر، ويعلن أنّ عصر الغيبة الكبرى قد انقضى، وأنّنا دخلنا في دور جديد. ليس "الباب" إذاً مجرّد سفير أو نائب للإمام، إنّه التجلّي الصريح للإمام الغائب، في جسد جديد، ولدور جديد. لم يكتف الباب الشيرازي بهذا. توالت كتاباته ورسائله بالفارسية وبالعربية لتعلن أنّه "النقطة العليا"، و"نقطة البيان"، أي أنّه لم يعد يكتفي بالإمامة التي تمتلك مفاتيح تفسير النصوص المنزلة على الأنبياء، بل أنّه هو أيضاً يتلقى الوحي. من تصريح لتصريح سيثير الباب حفيظة السلطات أكثر، ملكية ودينية، خاصة أنّ بعض المرجعيات الدينية رأت في أسلوب تفسيره لسورة يوسف تأليهاً لنفسه، وأحياناً كان يعطي الانطباع بأنّه النبي الياس عائداً. هذا، وفي وقت كان يتزايد عدد أتباعه بتفاؤل يصعب علينا اليوم فهمه، بأنّ الوقت وقتهم، وأنّ حركتهم في طريقها إلى أن تبدّل الأشياء رأساً على عقب.
19 شهراً وكل شهر 19 يوماً
ميّز الباب نخبة من أتباعه، هم الثمانية عشر شخصاً الذين آمنوا بالدعوة ووجدوا الطريق إلى صاحبها، وآمنوا به دون أن يدلهم عليه أحد. أطلق على هؤلاء الثمانية عشر تسمية "حروف الحي". لحروف الحي الثمانية عشر هؤلاء سيوجه الباب رسائله للإفصاح عن مذهبه، يتقدمهم "الملا حسين بشروئي" الذي لقب بـ"باب الباب". قارن الباب الشيرازي "حروفه" هؤلاء بحواريي عيسى، والعدد مضافاً إليه "نقطة العلا" أو "النقطة العليا" أي الباب نفسه يصبح 19، وهو العدد المقدّس والذي تتكثف حوله الرموز في البابية، بل أنه قسّم السنة تسعة عشر شهراً، والشهر تسعة عشر يوماً. يصعب الفصل في حقيقة حج الباب وأتباعه إلى مكة، فالرواية البابية تقول إنّه أعلن بجوار الكعبة أنه القائم صاحب الزمان، وأرسل لشريف مكة يطالبه بالاعتراف بظهوره. فثمة اعتقاد قوي بأنّ الباب وأنصاره لم يكملوا طريق الحج إلى الآخر، وأنّهم عادوا إلى فارس بعد أن شعروا بتوسع نفوذهم داخلها، وبعد تشجيع من الجانب الروسي لحركتهم بشكل أو بآخر. في هذا المناخ اعتقل الباب في شيراز في حزيران 1845، ليطلق سراحه بعد محنته الأولى هذه، ويذهب إلى أصفهان، ويسعى لتنشيط الدعوة منها، ما سيؤدي به مجدداً الى الاعتقال وسوقه إلى مقاطعة أذربيجان شمال غرب البلاد، ووضعه في قلعة ماكو بقصد إبعاده عن أتباعه، ثم نُقل إلى قلعة جهريق قرب الحدود مع العثمانيين.القطيعة مع الإسلام والتشيّع
ستأخذ البابية وجهة جدية بعد اعتقال صاحبها. من جهة، الباب يمضي في "تلقي" وحي جديد، هو كتاب "البيان"، بقسميه "البيان الفارسي" و"البيان العربي"، ويتوزّع إلى سُوَر، فيها محاكاة كثيراً ما تكون مفتعلة للأسلوب القرآني، وفيها متابعة للتفسير الباطني، ونزعة حلولية تتعامل مع مسيرة الأنبياء على الأرض على أنّها تجليّات متواصلة للسرّ الإلهي نفسه، لـ"الحقيقة". وفيما كان الباب يضع كتاباً للجماعة وهو في الاعتقال، كانت الجماعة تناقش أمرها، وعلاقتها بالتشيع، بل بالإسلام نفسه في موضع آخر. ففي شرق إيران، على التخوم بين خراسان ومازندران، سينعقد مؤتمر "بدشت"، ويضم 81 شخصاً يبحثون بالنتيجة في مسألة عالية الخطورة: تحديد ما إذا كانوا حركة إصلاحية داخل الإسلام والتشيّع، أو حركة تتجاوز الإسلام وشريعته، أي "تنسخهما"، كما نسخ القرآن من قبل التوراة والإنجيل والديانتين الكتابيتين. وفي مؤتمر "بدشت" هذا ستلعب إمرأة شابة، هي أم سلمى زرين تاج، أي صاحبة التاج الذهبي، في إشارة إلى شقارها، دوراً مفصلياً في ترجيح كفة القطيعة، وإعلان الانتقال من شريعة القرآن إلى شريعة البيان. هذه المرأة الشاعرة هي سليلة عائلة من رجال الدين، عُرفت بجمالها الباهر وشدّة ذكائها، وأطلق عليها سيد كاظم الرشتي اسم "قرة العين". في وقت كان الكثير من البابيين مترددين في تقرير شكل علاقتهم بالإسلام، كانت قرّة العين هي الأكثر حماسة للقطيعة معه. وإذا كانت قرّة العين سبّاقة في الدعوة إلى الاختلاط بين الرجال والنساء، وفي نزع النقاب والحجاب، فإنّها كانت تصدم كثيرين داخل الحركة نفسها، وهي من عداد "حروف الحي" الذين سمّاهم الباب هكذا، لكنه لم يحصل لها أن رأته. عرفت قرّة العين بقوة عنادها، وعدم كتمانها لمعتقداتها، وشعرها الغزلي الجريء المتداخل بالمعاني الباطنية، إنما بحسّية جامحة، وعرفت بشجاعتها أمام الإعدام، هذا بخلاف الباب نفسه. سينتهي الصراع بين الشاه القاجاري ورجال الدين وبين البابيين إلى صدام دموي، عام 1848. عام الثورات التحررية المختلفة في أوروبا سيكون عام التمرّد البابي في إيران، ومع التمكن من قمع البابيين وإبادة عشرات الآلاف منهم، لن تتردّد السلطة في تموز 1850 في إعدام الباب نفسه، وكذلك كان مصير قرّة العين الإعدام خنقاً. الفارق أنّ جثتها ألقيت في بئر، في حين أن جثة الباب ستحاك حولها رواية قسم من أتباعه لاحقاً، بأنهم تمكنوا من إخفائها بعد مقتله، ومن حملها بعد ذلك بسنوات طويلة إلى جبل الكرمل، لدفنها في مكان غير بعيد عن ضريح مؤسس الديانة البهائية، الميرزا حسين علي النوري المازندراني.البهائيون والأزليون
والميرزا حسين علي النوري هذا، الذي ستعرفه جماعته ببهاء الله، سيكون عنواناً لصراع على تركة الباب مع أخيه الأكبر غير الشقيق الميرزا يحيي الوحيد صبح الأزل. كلاهما تمكن من الخروج من فارس باتجاه بغداد ثم الأستانة، بعد نكبة البابيين، إلا أنّ صبح الأزل هو الذي عيّنه الباب الشيرازي خليفة له، لا شقيقه. وهذا ما تتأوله البهائية على أنّ الشيرازي فعل ذلك ليحمي بهاء الله من التنكيل به. نفى الأتراك الأخوين إلى أدرنة، وعندما تواجه أنصارهما بشكل دامي خلصا إلى إبعاد كل واحد منهما إلى ناحية: صبح الأزل إلى قبرص، وبهاء الله إلى عكا. وفي حين امتاز بهاء الله عن أخيه بتعمّقه في علوم الباطن والتصوّف، وأعلن بدوره نسخه للبابية نفسها، نحو دين جديد، سيعطيه ابنه "عبد البهاء" نفحة روحانية كونية، فقد تراجع عدد البابيين - الأزليين، وإن كانوا أكثر تأثيراً في ثورة 1905 الدستورية في إيران، وأكثر كتماناً لحركتهم، التي ما زالت منها بقية صغيرة إلى اليوم، في إيران واوزبكستان وعلى الإنترنت، تُعرف بإسم "أهل البيان".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه