تودّع هذه البقعة المكتظة اليوم عائلة من سكانها القدامى، فها هي عائلة "أبو رائد" تحمل آخر حاجاتها وتضعها في السيّارة التي استأجرتها لنقل ممتلكاتها البسيطة من بيتٍ أتمت فيه ثلاثة عقود على الأقل.
أقف مع المتفرجين الذين تجمهروا لرؤية من يصفوه بـ"النجس"، حتى لا أستخدم كلمة أخرى أشد وقعاً، يغادر من دون توديعه، ويبدو أنه لا ينتظر كلمة وداع من الجيران أيضاً!
أعرف أبو رائد جيداً، فهو رجل تقيّ معروف بتديّنه وتعمّقه في أمور الدين، ولطالما لجأ إليه الناس بأسئلتهم الشرعية المنطقية وغير المنطقية، ولم يردّ أحداً منهم يوماً، حتى أن صديقي الوحيد الذي أخبرتكم عنه أيضاً لجأ إليه منذ زمن ليس ببعيد طالباً رأيه في الجماعات الإسلامية التي تقاتل في بلادٍ مجاورةٍ.
سمعت يومها أبو رائد يحذّر صديقي من تصديق ما يقولون، وظل يقنع صديقي لأسابيع بأن ما يقومون به لا يخدم الإسلام بشيء، وأنه ما من سببٍ وجيهٍ يجعل شخصاً يلتحق بهم سوى أنه يريد الانتحار. كلما ذكر صديقي رغبته في القتال، ذكّره أبو رائد بالدولة التي اقتلعت أجداده من أرضهم وجعلتهم يسكنون هذا المخيم لعقودٍ متواصلةٍ، وأنها الوجهة الأولى بالقتال، ولكنه لم ينجح في مهمته وفوجئ كما فوجئنا جميعاً بخبر وفاة صديقي الوحيد وخمسة آخرين من المخيم في بلادٍ قريبة.
المفاجآة التي لم يستوعبها أحد منهم كانت ردة فعل الأب، فلم يقتل ابنته...
ظلوا يشتمونه لشهور، ويتساءلون لمَ لم يقتل ابنته بعد عقاباً على فعلتهاكنت أتمنى لو يبقى معنا، ولكنه حسم أمره منذ أن أصبحت سيرته على كل لسان في المخيم قبل حوالي سنة. للرجل التقيّ ابنة تبلغ من العمر 16 عاماً لا يعرف ملامحها الحالية أحد بالطبع، ولكن اكتشف فيما بعد أنها تواعد رجلاً يكبرها بعشرين عاماً على الأقل وأنها حبلى. كانت هذه مفاجآة صادمة للحي، كيف تقترف ابنة الرجل التقي ذنباً كهذا؟ لكن المفاجآة التي لم يستوعبها أحد منهم كانت ردة فعل الرجل، فلم يقتل ابنته. ظلوا ينتظرون لرؤية دمها يسيل في المخيم لشهور، ولكنه لم يقتلها. ظلوا يشتمونه لشهور، ويتساءلون لمَ لم يقتلها بعد، ولم يتفوّه أحد بكلمة لمصلحة الرجل سوى شخص واحد يُدعى عمّار، وها هو يقف معنا اليوم يشاهد الرجل يرحل مكتوف الأيدي، يجادل الناس من دون أن يقنعهم. يعمل عمّار محامياً، وقد سكن المخيّم في طفولته وأولى سنوات شبابه قبل أن يتزوج وتشترط زوجته ألا يسكنا المخيّم، وألا يقرباه. سكن في منطقة بعيدة، ولكنه ظل يتردد إلى المخيم لزياره أهله. سمعنا لاحقاً أنه حصل على منحة دراسية في بلاد أجنبية، وأكمل دراساته العليا، ولطالما تباهى به ذووه في المخيّم، ولكنه لم يكن خفيف الظل على غيرهم من الجيران. كانوا دائمي التذمر من وجوده. حتى في هذه اللحظات، يبدو التذمر واضحاً، فيلتفت أبو سامر إلى جاره الآخر ويقول "تعا شوف... صار بده يفهمنا اللي درس عند الأجانب أنه الشرف مش مهم". أحسب أنه غاضب لأن عمّار ظل يذكرهم بعمر الفتاة وأن ما حدث جريمة بحقها في القانون الأردني لأنها قاصر، طالباً منهم أن يكفوا عن تكرار عبارة "هي.. هي برضاها بتروح له" وأن يكفوا عن الدعوة إلى قتلها. كان من الصعب عليّ أن أتابع تفاصيل الحديث بعدها، فبدأت أتأمل في الأفق البعيد، في ذاك العالم الواقع خارج حدود هذه البقعة، ولكن صوتهم وهم يتجادلون ظل يعيدني إليهم. تساءلت في سري، لو منحني الله القدرة على الكلام، هل أمضي وقتاً طويلاً في جدال أهل الحي كما يفعل عمّار في كل زيارة له أم لا؟ التفتّ لرؤية عمّار، فوجدت رجلاً آخر يرّبت على كتفه، ويقول له: لا تزعل علينا.. هيك احنا، وهيك أهلنا ربّونا!
مذكرات وصور من زحام المخيّم لن تتمكنوا من نسيانها | الجزء الأول
مذكرات وصور من زحام المخيّم لن تتمكّنوا من نسيانها | الجزء 2
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 5 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين