شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
مذكرات وصور من زحام المخيّم لن تتمكّنوا من نسيانها | الجزء 2

مذكرات وصور من زحام المخيّم لن تتمكّنوا من نسيانها | الجزء 2

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 1 فبراير 201712:23 م
هذه المذكرات مبنية جزئياً على أحداث حقيقية مع توظيف الخيال في بعض تفاصيلها مراعاةً لخصوصية شخوصها. استيقظنا اليوم على خبر وفاة جارنا "أبو سليم". كان في مقتبل الأربعين من عمره، لطيفاً مع الناس بعيداً عن غرفته التي يسكنها مع زوجته وأطفاله الخمسة، إلا أن الجميع بدوا وكأنهم يتنفسون الصعداء يوم وفاته. فور سماعي للخبر، فكّرت في رد فعل ابنته الكبرى سارة التي تبلغ من العمر 15 عاماً، على الرغم من أنني لم أرَها منذ زمن، ولكنني كنت أراها يومياً في الحي عندما كانت طفلة. كنا نعلم أنها لا تتوقف عن البكاء والتألم من عنف أبيها الذي طالها هي وأمها وأخوتها. سارة فتاة، على ما أذكر من ملامح وجهها في طفولتها، جميلة وابتسامتها لا تفارق وجهها. بعد أن تغيّرت ملامح جسدها، التزمت كغيرها من بنات المخيّم بأعراف الحي: لا خروج إلى الشارع إلا للذهاب إلى المدرسة أو العودة منها، ولا حديث مع غريب حتى من خلف الغطاء الذي يخفي وجهها وذلك حتى تنعم بزوجٍ يليق بها، أي يليق بتلك العفيفة التي لا يعرفها حتى جيرانها. هكذا هي شهادة العفّة للفتاة في مجتمعنا.
"يلا الحمدلله. عمرها ما عرفت تخلص منه وهو عايش. هي ربنا ريّحها منه!"...
بيد أنني لم أرَها تخرج في هذا الفصل الدراسي إلى المدرسة. لا بد أنها تركتها وظلت حبيسة الغرفة الصغيرة التي بالكاد تتسع لثلاثة أفراد، وأثارت حيرة الجيران بأمرين: كيف تتسع الغرفة لسبعة أفراد وهل يكتفي الزوجان في هذه الغرفة بالتقبيل فقط؟ كنت أستيقظ من نومي أحياناً منزعجاً من صوت صراخ سارة وإخوتها، ثم تختلط الأصوات فأسمع استنجاد الأم بالجيران وصوت طرق الأبواب بقوة لتختبئ عندهم. هذه ليست حادثة عرضية، بل إنني، أنا الذي لا أملّ من المراقبة بتاتاً، مللت من تكرارها. كلما لحق بها إلى بيت الجيران، حذرهم من التدخل في شؤون عائلته الخاصة، فكانوا يكتفون بـ"تحليفه" بالله فقط بألا يقترب منها مرة أخرى، ولكنه بقي يفقد صوابه فور دخوله إلى الغرفة بعد الأيام الطويلة التي يقضيها متسكعاً في شوارع المنطقة باحثاً عمّا يشغل به أوقاته إلى حين حصوله على العمل "الموعود به". لم يكفّ عن ضربهم إلا بعد شهر آذار من العام 2015. في أول أسبوع من ذاك الشهر، استيقظنا على صوت استنجاد الأم ذاتها، وبكاء رضيعها الذي لم يكمل السنة الأولى من عمره بعد، ولكنني شعرت بأن هذه المرة مختلفة. هذه المرة لم تكن تخشى زوجها، وكانت تشتمه بأقذع الألفاظ للمرة الأولى بأعلى صوتها وكأنه لم يعد لديها شيء تخسره! تجمّع الناس وحاولوا حملها هي ورضيعها وإخراجهما من الحفرة التي وقعا بها، فلم يكن عُمّال المنطقة قد طمروها بعد، ولكن بكاء الرضيع لم يتوقف وفارق الحياة بعد ساعاتٍ معدودةٍ من الحادثة. لا أعلم كيف نسيَ الناس الحادثة، وهي لم تترك زوجها حتى بعد غضبها الهستيري تلك الليلة. لم يشتكِ عليه أحد، وردّدوا لأسابيع عبارة "قضاء وقدر"، ثم طويت القصة حتى جاء موعد العزاء. لم أتوّقع حزناً جمّاً، فالناس هنا يتقبلون فكرة الموت ويسلّمون به، ولكنهم بدوا هذه المرة فرحين بموته. في نهاية اليوم الثالث من العزاء، رأيت آخر سيدتين تخرجان من غرفتها، وسمعتهما تتبادلان التهانىء، فقالت إحداهما للأخرى: يلا الحمدلله. عمرها ما عرفت تخلص منه وهو عايش. هي ربنا ريّحها منه!

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image