سلطنة عُمان تستعدّ للحياة بعد السلطان قابوس. منذ عامين، وإثر تدهور صحته، حضر الكلام عن مستقبل "نرويج الخليج" بعد خسارة قابوسها. هو آخر سلاطين العرب، وسليل النبيّ النوح. يُعرّف موقعه الرسمي أنه آتٍ من أقدم الأسر العربية الحاكمة التي انقضت 260 عاماً على توليها الحكم. الأسئلة الكثيرة والمتشعبة حول مستقبل البلاد تنبثق مباشرة من واقع "الوحدة" (كما الفرادة) المرتبطة على نحو عضوي بالسلطان، الذي عاش حياته من غير زوجة ولا أولاد، وحتى بعد تدهور صحته لم يعيّن له وريثاً في العلن. هو أيضاً "الرجل الوحيد" في السلطنة، التي ارتبط اسمها به ليشكلا كياناً واحداً. في الاصطلاح السياسي يقول المثل "لا أحد أكبر من بلده"، لكن قابوس خالف القاعدة.
في يده، تركّزت كل مقاليد الحكم، فكان رئيس الوزراء ورئيس المجلس الأعلى للتخطيط والقائد الأعلى للقوات المسلحة ووزير الدفاع ووزير المال ورئيس البنك المركزي. منذ مدة، يمكث السلطان في ألمانيا لعلاج سرطان القولون، يحاول المكتب السلطاني الإيحاء باستقرار وضعه الصحي. وقبل أيام، بثّ التلفزيون العماني تسجيلاً يُطمئن على صحة قابوس البالغ من العمر 76 عاماً. هذا هو الحال منذ عامين، لكن عدم وجود خطة واضحة تحدّد مسار الخلافة في ظلّ غيابه، يحفّز السؤال حول أي مستقبل ينتظر عمان والعمانيين إن رحل؟ كيف لا تكون هناك مخاوف، وقابوس في كل مكان.
تذكر إحدى مقالات مجلة "الإيكونوميست" ما يختصر هذا الواقع "لو كنت أحد سكان عاصمة عُمان الساحلية مسقط، فإنك في الغالب ستقود سيارتك في شارع السلطان قابوس، وتمرّ بمسجد السلطان قابوس الكبير، كما بميناء السلطان قابوس، وقد تكون خرّيج جامعة السلطان قابوس، وتشاهد مباراة كرة قدم في مجمع السلطان قابوس الرياضي، ذلك قبل أن تعود لبيتك في مدينة السلطان قابوس، أحد أحياء العاصمة". لا شيء رسمي حتى الساعة. لا أحد يعرف الكثير عن المرشحين، فقليل من العمانيين قادر على الاعتراف باحتمال وفاة السلطان. لكن الإشاعات بدأت بالانتشار بشأن المرشحين للخلافة، وكلهم من العائلة المالكة، أبرزهم أبناء عمه أسعد وشهاب وهيثم بن طارق آل سعيد. وقد يكون الأكثر حظاً، بحسب المحللين هو أسعد الذي تولى سلاح المدرعات ودرس في أكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية في بريطانيا مثل قابوس، وتحدث في حوارات صحافية عن تأثره بشخصية قابوس وحفظ كل نصائحه. يُذكر أن القانون العماني يعطي عائلة البوسعيد ثلاثة أيام لاختيار مرشحها، وإن لم توفق في ذلك، تُفتح الرسالة التي تركها السلطان، وفيها اسم من يختاره خليفة له.
عُمان قابوس
في 23 يوليو 1970، أطاح قابوس حكم أبيه ليتسلم البلاد ويفرض حكماً مطلقاً أسهم في توحيدها وتطويرها في الوقت ذاته. يسمي العمانيون وصوله للعرش بـ"يوم النهضة المبارك"، من دون أن تكون رواية الإطاحة متداولة. عند تسلمه الحكم، كانت عمان فقيرة جداً، نظامها التعليمي مهترئ ومدارسها قليلة.ببساطة كانت واحدة من أكثر الدول العربيّة تخلفاً. يقول تقرير لمعهد "ستراتفور" الأميركي "تاريخياً، إن سلاطين عمان استفادوا من تجارة الحرير والتوابل والعبيد، وكفلت تلك التجارة لعمان درجة من التنمية والثروة كانت غائبة في معظم شبه الجزيرة العربية الفقيرة الموارد حتى القرن التاسع عشر، لكن عقب التطور الكبير في النقل البحري وانهيار تجارة الرقيق، تضاءلت حظوظ عمان المالية، وهذا ما أتاح لقوى خارجية مثل إيران والمملكة المتحدة والولايات المتحدة أن تمارس نفوذاً أكبر على مسقط". ويضيف المركز "في أوائل القرن العشرين، دعمت السعودية حركات التمرد المختلفة في عمان في محاولة لإضعاف السلطنة، لكن السلطان قابوس كان قادراً على الاحتفاظ بسلطته بدعم بريطاني وفارسي، وهو ما عزّزه الارتفاع في إنتاج النفط والغاز العماني عقب صعوده إلى العرش في 1970".
ما يُحسب لقابوس أيضاً قدرته على دمج المناطق الصحراوية المحافظة مع المجتمعات القبلية شرق صلالة والمناطق الساحلية المحيطة بمسقط. لقد جعل السلطنة تتأثر بروح الحداثة مع الحفاظ على التقاليد في العمل واللباس والهوية، واستفاد من النفط والغاز، وأطلق التجارة مع الشركاء في جنوب آسيا وغيرها من دون أن يضرّ ذلك الصناعات التقيلدية، كما أتقن اللعبة الإقليمية والدولية التي جعلته صديق الجميع مهما بلغت العداوة بينهم.
لعبة السلام
تحوّلت السلطنة تحت حكم قابوس إلى لاعب مستقل ومتزّن في السياسة الخارجية. جمع أعداء كثراً إلى طاولته، من الصراع الخليجي - الإيراني، إلى الملف اليمني، وصولاً إلى الصراع الإيراني - الأمريكي. جنّب بلاده الصراعات في منطقة مشتعلة، ولم يظهر انحيازاً لطرف دون آخر. هو عضو مؤسس وأساسي في مجلس التعاون الخليجي، لكنه شريك إيران وحليف الولايات المتحدة وبريطانيا، وتجمعه علاقات اقتصادية مع الصين والهند وباكستان، وودّ متبادل مع أوروبا وروسيا.في العام 2013، استضافت الكويت قمة الخليج التي خصصت لمناقشة اقتراح الملك عبد الله تأسيس اتحاد خليجي، لكن الوفد العماني انسحب، وعبّر وزير الخارجية يوسف بن علوي عن استعداد السلطنة للانسحاب من مجلس التعاون إذا أصرت السعودية على الاتحاد.
للسلطنة دور مؤسس في المجلس ولها ثقلها فيه، لكن في المقابل لها خصوصية أرساها قابوس، معبّراً عن رفضه الذوبان في اتحاد خليجي.
لم يكن الموقف العماني انفعالياً، بل هو نتاج مسار طويل من التميّز الداخلي، ومن العلاقات الإقليمية غير المحدودة، لا سيما مع الجانب الإيراني. لم تكن العلاقات مع إيران مستجدّة، فهي تعود إلى أيام الشاه الذي ساعد السلطان في الحدّ من تحركات "ثوار الجبل الأخضر".
بعد الثورة الإسلاميّة، تأزم الوضع قليلاً لكن المياه عادت إلى مجاريها. وها هو قابوس في العام 2013 يُسلّم رسالة من الرئيس الإيراني حسن روحاني للرئيس باراك أوباما بشأن المفاوضات، بعدما صرّح بضرورة الحديث المباشر بين طهران وواشنطن بخصوص الملف النووي. كما احتفى السفير العماني في إيران بـ"الجهود الجبارة" التي لعبتها السلطنة في إنجاح المفاوضات بعدما استضافت الجولات الأولى المهمة. وكان قابوس أول رئيس عربي يزور روحاني، كما توسط لإطلاق سراح معتقلين لدى الجانبين الأمريكي والإيراني. ولا ننسى اتفاقيات التعاون الأمنية العديدة التي تربط السلطنة بالجمهورية الإسلامية، وفي المقابل تستفيد عمان من حركة مرور سفن النفط في مضيق هرمز الذي تتشاركه مع إيران. على الصعيد اليمني، امتنع قابوس عن المشاركة في عاصفة الحزم التي أطلقها مجلس التعاون لاستهداف الحوثيين في اليمن. كما أعدّ مبادرة في الإطار تتضمن إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية سريعة، وتحويل الحوثيين إلى حزب سياسي. من جهتها، ورثت الولايات المتحدة النفوذ البريطاني في اليمن بعد الحرب العالمية الثانية، كما تحولت عمان إلى مركز للعديد من القواعد الأمريكية. كما توجد اتفاقيات تسمح للولايات المتحدة باستخدام 24 مرفقاً عسكرياً. وتكفلت عمان بأكثر من 70% من الإنفاق العسكري الأمريكي هناك، فيما جدّدت الاتفاقيات بعد 11 أيلول وسمحت لواشنطن باستخدام ثلاث قواعد عسكرية بصفة دائمة. ولم يكن العسكر وحده ما يجمع البلدين، بل هدوء عمان وحياديتها التي جعلتها وجهة آمنة لتسوية عمليات السلام في المنطقة، لتصبح أشبه بجنيف العالم العربي.سلطنة عمان، الوجهة الآمنة لتسوية عمليات السلام في المنطقة، و"جنيف" العالم العربي
وإن رحل قابوس؟
يرى المحللون أن عمان مستقرة سياسياً، لكن مع بدء موجة "الربيع العربي، بدأت الشكاوى ترتفع لا سيما مع بطء عجلة الاقتصاد. تحرّك قابوس وأوعز للمجلسين الاستشاريين بضرورة تأمين وظائف للشبان وزيادة الرواتب. وقد أثّر تراجع أسعار النفط على تراجع الدخل ووقف الدعم الحكومي عن بعض المواد. وازداد الحديث عن ثروات السلطان ويخوته الخمسة التي قدرتها مجلة "فوربس" في العام 2011 بـ700 مليون دولار. يشير متابعو الشأن العماني إلى أن السلطنة تشبه دول الخليج في موضوع العقد الاجتماعي، فالسلطة تدفع لمواطنيها بسخاء مقابل غضّ النظر عن بعض الحقوق الأساسيّة. لكن ما يميّز عمان كذلك هو تلك الشخصية التي طبعها قابوس في نفوس العمانيين، فهو مقدام وسخيّ وقد رفع البلاد إلى مستوى يتباهون به. مع ذلك تزداد المخاوف في ظلّ وجود جيل واسع وُلد بعد العام 1970، ولا تربطه تلك النوستالجيا بشخصيّة السلطان، بينما تزداد توقعاته كما عدم رضاه عن القيم التقليدية والفرص التي حظي بها آباؤه. حتى الآن، لا تزال المطالب الجماهيرية سلمية إلى حد كبير، لكن المحللين يتخوفون من خسارة "ضابط الإيقاع" ومن التدخلات الخارجية التي ستضع مسقط في مهب الأزمة، في وقت يعتقد تيار آخر أن المرشحين المحتملين يشاركون قابوس في توجهاته، إذ كان قد عيّنهم في مناصب بارزة، كما أن الدول الكبرى تتشارك المصلحة في الحفاظ على قواعد السلطنة التي أرساها قابوس.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...