يقف وقفةً واثقة لدى إلقاء كلمته في افتتاح معرض فني، وخلفه حارسه في مشهد عادي جداً، وفجأة يستل الحارس سلاحه مغتالاً من قدّر له أن يحرسه. تهتز الكاميرا قليلاً قبل أن تتسع زاويتها لنرى القاتل الشاب رافعاً سبابته، وهو يصرخ بلغة استطاع المشاهد العربي أن يسمع منها كلمات: الله، الجهاد، سوريا، حلب.
إنه مختصر خبر اغتيال السفير الروسي في أنقرة على يد أحد عناصر الشرطة التركية الموكلة إليهم مهمة حماية المكان وزواره.
هكذا أذيع الخبر مصحوباً بشريط مصور لعملية الاغتيال، سرعان ما تصدر نشرات الأخبار وصفحات التواصل الاجتماعي حول العالم، طاغياً على أخبار أخرى لا تقل دموية عنه حدثت في اليوم نفسه.
وكالعادة في عالمنا العربي، قفزت "نظرية المؤامرة" على السطح، لنجد من يدقق في الشريط مستخرجاً علامات استفهام، مستدلاً بها على أن أمراً مريباً يحدث. هناك من يخدعنا ويصنع الصورة لأهداف خبيثة. السفير الروسي لم يقتل هكذا، بل نحن إزاء مشهد تمثيلي أعدّ سلفاً بدقة وإحكام لخداعنا.
وبالطبع وجد هذا الصوت صدى على شاشات التلفزة، فقد أطل المذيع الأبرز في مصر "عمرو اديب" بفيديو مترجم للعملية، صارخاً "انا ما أبعش دماغي لحد"... قبل أن يفند أسباب شكه في ما يرى، وشكه لا يبتعد كثيراً عن شكوك كثيرين من رواد شبكات التواصل الاجتماعي في العالم العربي.
ثم راحت تتوالد الأسئلة: لماذا لم يحاول أحدهم قتل الضابط؟ لماذا استمر البث دقيقة كاملة قبل أن ينقطع؟ أليس غريباً أن يكون المصور بهذا الثبات الانفعالي ليفتح الكادر قبل أن يهرب؟ وأخيراً ما دلالة اغتيال السفير الروسي وهو يفتتح معرضاً باسم "روسيا بعيون الأتراك”، قبل يوم واحد من لقاء أردوغان وبوتين؟
التعامل المتشكك مع حادثة اغتيال السفير الروسي ليس بجديد علينا، فتاريخنا طويل مع القراءة التآمرية للصورة المعروضة، والأمثلة التالية مجرد نماذج.
هل هناك دليل واحد على نظريات المؤامرة هذه؟ لا، ولكن متى احتجنا إلى دلائل؟
القبض على صدام حسين
في 13 ديسمبر 2003 اذاعت القوات الأمريكية فيلماً قصيراً عنوانه "عثرنا عليه" يظهر لحظات القبض على الرئيس العراقي صدام حسين، وبالطبع تباينت ردود الأفعال حيال ذلك الخبر، بين الذين فرحوا بالقبض على الطاغية والذين حزنوا على مصير من يعدّه البعض زعيماً. لكن حضرت (كالعادة) نظرية المؤامرة، إذ خرج من يشكك في دقة الفيديو قائلاً إن البلح (التمر) الذي كان في خلفية الصورة أصفر اللون، وهو ما لا يحدث في العراق إلا في شهر يوليو أو أغسطس وليس في ديسمبر، موعد القبض على صدام. أجمع الكثيرون على أن الفيديو مفبرك. لكن لماذا يُفبرك وقد شاهدنا صدام حسين بعد ذلك يحضر محاكمته؟ لم يجد أحدهما إجابة منطقية عن ذلك، فقط كان هناك التشكيك في دقة الفيديو وثقة مطلقة بأن هناك من يضللنا.مصرع الأميرة ديانا
في 30 أغسطس 1997 كانت "الأميرة ديانا" بصحبة صديقها رجل الأعمال المصري "عماد الفايد" في فندق ريتز بباريس، وتفادياً لعدسات المصورين المتلصصة، قرر الفايد أن يخرج وديانا من الباب الخلفي للفندق، متجهين إلى "نفق ألما" حيث اصطدمت السيارة المسرعة بأحد أعمدة النفق. أسفر الحادث عن مصرع الفايد وديانا والسائق. هذا الحادث المروع الذي تصدر صفحات الجرائد كان صادماً، وبكى العالم الأميرة الجميلة، لكن، كعادتنا، كنا نبحث عن الجانب الخفي في الصورة. ووجدنا ضالتنا في "نظرية المؤامرة"، وملخصها: مصرع الأميرة كان مؤامرة على الإسلام. نعم، الأميرة الفاتنة قتلتها المخابرات البريطانية التي لم تكن تسمح بأن يكون لملك بريطانيا ذات يوم أخاً مسلماً. وهو ما كان سيحدث إذا تزوجت ديانا من الفايد ثم أنجبت منه ولداً. لذا تم الخلاص منها. هكذا قررت المجتمعات العربية، وصدقت ما قررته. هل هناك دليل واحد على ذلك؟ لا، ولكن متى احتجنا إلى دليل؟اغتيال ياسر عرفات
عندما توفي ياسر عرفات في نوفمبر 2004 صرحت زوجته السيده سها عرفات أن زوجها مات مسموماً، وأن إسرائيل قتلته. ورغم ذلك، رفضت تشريح الجثة ثم عادت بعد 8 سنوات لتسمح باستخراج الجثة حتى تؤخذ منها 60 عينة من أجل تحليلها في ثلاث بلدان مختلفة (سويسرا - فرنسا - روسيا)، وقد قام كل فريق بعمله على انفراد. وفي حين أشار تقرير الجانب السويسري إلى أن جثة عرفات تحمل معدلاً مرتفعاً من مادة البولونيوم المشع، مما يؤيد (بصورة معقولة) نظرية أنه مات مسموماً، أتت تقارير الجانب الفرنسي لتؤكد، على لسان المدعية العامة الفرنسية كاثرين دينيس، أن الخبراء الذين تولّوا التحقيق في وفاة ياسر عرفات يستبعدون مرة أخرى فرضية موته مسموماً. وهذا التقرير شكك الجانب الفلسطيني في صحته. ربما يكون عرفات الشخص الوحيد الذي يمكن تقبل نظرية المؤامره تجاه موته، فتاريخ عرفات الحافل بأربعين محاولة اغتيال، تجعلنا نلتمس العذر لمن يعتقدون أنه مات مقتولاً. ولكن المستغرب أن الجماهير العربية نفسها التي تتبنى "نظرية المؤامرة" كتفسير دائم لكل ما يحدث، تسخر أيضاً من حكامها حين يتحدثون عن المؤامرة الكونية وحروب الجيل الرابع.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه