«ها نحن ذا على دروب كنزنا / نسير معاً وآمالنا تسير قبلنا / من غيرنا يقطع يوماً مثلنا / درباً خطيرة، إلى الجزيرة / من غيرنا؟»
ستسكن هذه الأغنية وجدان الأطفال الذين كنّاهم، فالوقت اللذيذ الذي قضيناه نرددها هامسين، مع شارة بداية مسلسلنا الأثير "جزيرة الكنز"، سيرشحها لتكون شعاراً، أو صورة، للحياة التي نحلم أن نعيشها. فكلنا يريد الوصول إلى الكنز، مثل الفتى «جيم». كذلك سيكون حالنا مع رحلات الصبي الشريد «ريمي»، وهو يقود فرقة الحيوانات المتجولة، مع العجوز الطيب «فيتالس».وقتها كنا نحيا حقاً في عالم مرسوم بالريَش والألوان، بيوته قرميدية مثلثة، ومروجه تمتد حتى الأفق، أما أناسه فلهم عيون واسعة تلتمع من حرارة دواخل أصحابها.
كان بإمكان كل واحد منا أن يكون ما يريد، وعلى الآخرين أن يعاملوه كذلك، فالذي اختار أن يكون توم سوير يقوم أصدقاؤه بحل وظائفه المدرسية، ويغطّون على غيابه عن الصف، والذي أراد أن يكون جون سيلفر على الجميع أن يتحملوا هلوسته وهو يغني «خمسة عشر رجلاً، ماتوا من أجل صندوق»، والتي تحولت إلى سالي أو فلونة، أو ساندي بل أو هايدي، أو الليمونة الحلوة، يجب على الأخريات مراعاة ما تريد مهما كانت الأسباب.
الوقت الحقيقي من اليوم، بالنسبة لنا، هو تلك الساعة المخصصة لأفلام الكرتون، يكفي أن تعلن المذيعة بدء الرحلة حتى نتسمر أمام الشاشة الصغيرة لنتماهى بكائناتها. نضحك من مغامرات بسيط، ونثور مع مناورات الكابتن ماجد، ونتحرقص للإطاحة بشرشبيل الشرير الذي كرس نفسه للقضاء على السنافر، نترقب مصير ”السيدة ملعقة“، أو ”ورطة القط بسبوس“، وبعدها نخرج من الجنة، من ”بلاد العجائب“، إلى حياة عادية لا نحسن تصريفها إلا عبر استعارة مفردات ذلك العالم، فنسمي المعلمين القساة ”جامبو الجبار“ أو ”خربوط“ أو ”هرهور“. ونتمنى الحصول على العصا السحرية عند كسر صحن كيلا تراه الأم، أو علبة سبانخ باباي في الشجار مع صبي يظن نفسه ساسوكي.
كم كان لنا من الأصدقاء: النمر الوردي، سنان، وودي وود بيكر، سيباستيان... الخ، وكم نحن الآن وحيدون! وكم كانت لنا من أحلام: أن يسجل الكابتن رابح هدفاً، أن يصل جيم إلى الكنز، أن تعود فلونة مع أهلها، أن تعثر ساندي بل على الرسام الحزين مارك، وأن يجد ببيرو أرض الذهب، الأولدرادو. أما الآن فكل ما نصبو إليه أن نعيش في سترة، ونحقق كفافنا!
أشياء كثيرة كانت تقدم لإقناعنا وتسليتنا، والآن ندرك متأخرين مدى أهميتها، وكم ساهمت في بناء شخصياتنا، وتكوين وعينا الأول، في عملية ثقافية هي الأنجح.
الآن ندرك أننا تجولنا في تواريخ الشعوب، واطلعنا باكراً على حيواتهم وثقافاتهم من خلال ”حكايات عالمية“ ذلك المسلسل الذي يحضر لنا قصصاً من كل بقاع الدنيا، حيث تقول فتاة في بداية كل حلقة ”هذه قصة من الصين“ أو ”حدثت هذه الحكاية في باريس“، في لعبة مدهشة، يكمن سرها في أغنية الشارة: ”من كل بلاد الدنيا/ من كل بقاع الأرض/ قصص شتى/ تروى حتى/ نعرف أحوال الإنسان/ والكل هنا جيران“، كما كانت تغنيها بلهب وتوثب أصالة نصري، ولعلها أجمل ما غنت على الإطلاق. مثله تماماً كان مسلسل ”حكايات لا تنسى“.
أما ريمي، جزيرة الكنز، أليس في بلاد العجائب، توم سوير... فسيمر وقت طويل قبل أن نعرف أنها روايات، يمكن إتيانها قراءة بحثاً عن لذة أخرى. كذلك الحال مع الأحلام الذهبية والنسر الذهبي، حيث سنصاب بسكتة من التفاجئ بأن هذه الروعة، وهذه الأساطير، جاءتا من شعب مباد، هو شعب الهنود الحمر. كما سنعرف أن لحن الحياةهو نسخة عن واحد من أهم الأفلام في تاريخ السينما هو ”صوت الموسيقى“ وسوى ذاك الكثير.
بعدما غادرنا جنتنا رحنا ننظر إلى أطفالنا على أنهم فقدوا الحميمية التي كنا نعيشها، بسبب الغربة التي سببتها الحياة الرقمية، لكن الحقيقة في مكان آخر، فرغم أن هناك جرعات عنف زائدة في الرسوم المتحركة الجديدة، ورغم مخاطبة الغرائز أكثر من مخاطبة الأرواح والأفكار، رغم ذلك كله لدى أطفال اليوم أصدقاء يشبهون أصدقاءنا القدامى، لديهم "سبونج بوب" الإسفنجة الكوميدية الرائعة، ولديهم تحف من الأفلام ثلاثية الأبعاد مثل: مدغشقر، شريك، up، باندا كونغفو.
كل فردوس معرض للفقدان، للخسارة، للغياب، وحده فردوس الأنيمشين يأبى أن يصبح فردوساً مفقوداً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...