قبل خمس سنوات هربت «مريم» من منزل عائلتها، لتضغط عليها للقبول بزواجها من الرجل الذي أحبته. وعقب مناورات مع الأهل، تم الزواج رسمياً في حفل حضره أفراد العائلة والأصدقاء. لكن المشاكل بدأت منذ اللحظة الأولى التي اجتمع فيها الزوجان، بسبب تعرض «مريم» للختان وهي صغيرة، ما أثر على علاقتهما بشكل واضح، ودفع الزوج للاعتداء على زوجته بالضرب مراراً، حتى أنجبت الزوجة طفلة، رفض والدها الاعتراف بها رسمياً، واستخراج شهادة ميلاد لها.
«كان يضربني يومياً، ويتهمني بالبرود. حين لجأت إلي أهلي، ضربني أخي أيضاً، وحين أنجنبت طفلتي الأولى، رفض الاعتراف بها لأنها فتاة وهو كان يريد ولداً، ورفض استخراج شهادة ميلاد رسمية لها»، تقول مريم، وسط همهمات طفلتها. وافق زوجها على الصلح قبل الجلسة النهائية في المحكمة، فعادت إلى حياتها معه، وحين أنجبت طفلتها الثانية، رفض أيضاً الاعتراف بها، واستخراج شهادة ميلاد، فعادت إلى المحكمة لإثبات نسب الطفلة، وتطلقت منه نهائياً.
حكاية مريم واحدة من مئات، وربما من آلاف القصص، لأمهات مصريات لا يستطعن تسجيل مواليدهن الناتجين عن زواج شرعي وموثق، بسبب المادة 20 من قانون الأحوال المدنية المصري، الذي يحصر تسجيل المواليد في الأب فقط أو أحد أقاربه "الرجال"، من الدرجة الأولى. ولا تعطي الأم أو أي من أقاربها الحق في تسجيل طفلها واستخراج شهادة ميلاد، حتى وإن كانت تملك وثيقة زواج رسمية.
قبل عام 2008 اقتصر التبليغ على الوالد فقط، لكن أدخِل تعديل على القانون، لتنص المادة 20 منه على أن الأشخاص المكلفين بالتبليغ عن الولادة هم: والد الطفل إذا كان حاضراً، أو والدة الطفل شريطة إثبات العلاقة الزوجية على النحو الذي تبينه اللائحة، أو مديرو المستشفيات والمؤسسات العقابية ودور الحجر الصحي وغيرها من الأماكن التي تقع فيها الولادات. لكن الوضع بقي على ما هو عليه، إذ تشترط مراكز التسجيل وفقاً للقانون، أن من يقوم بالتسجيل هو أحد أقارب الأب من الرجال.
وتقول نجلاء، الشابة العشرينية، التي يعمل زوجها في الخارج، إنها حين وضعت طفلها الأول لم تستطع تسجيله إلا حين ذهب معها شقيق زوجها، ووقع على إقرار رسمي بصحة كل الأوراق المقدمة، بما فيها وثيقة الزواج.
«لا أفهم ماذا تحتاج الأم بعد وثيقة الزواج لتثبت نسب ابنها؟»، تتساءل فاطمة صلاح، المحامية في مركز القاهرة للتنمية، الذي يدعم مريم وغيرها من النساء في مثل هذه القضايا. تقول صلاح: «هذا القانون يستخدمه الأزواج للتهرب من دفع النفقة للأطفال في حال انفصل الزوجان، لأنه إذا اعترف بالطفل يصبح ملزم قانوناً بالإنفاق عليه، إضافة إلى أن بعض الأزواج ينكرون نسب بناتهم تحديداً لرغبتهم في إنجاب ذكور، وأحياناً يستخدم هذا القانون لابتزاز الأم للتنازل عن حقوقها الشرعية مقابل تسجيل الطفل واستخراج شهادة ميلاده له».
تنص المادة 19 من القانون نفسه على ضرورة تسجيل المواليد خلال 15 يوماً من الولادة، وإذا لم يتم هذا، يكون التسجيل عن طريق قسم الشرطة. فيخضع الطفل لفحص "التسنين"، للتأكد من عمره الحقيقي.
القانون المصري لا يعطي الأم وأقاربها الحق في تسجيل طفلها واستخراج شهادة ميلاد له.. أمر لا يتردد بعض الآباء في استغلاله
"تزوجت رسمياً وأنجبت طفلاً، ثم اختفى والده، كيف لا أستطيع تسجيله واستخراج شهادة ميلاد له!"ويتوقف أي إجراء متعلق بالطفل في مصر على وجود شهادة ميلاد، بدايةً من التطيعمات الصحية، التي يجب أن يحصل عليها في موعدها، وصولاً إلى استخراج وثيقة سفر للطفل، أو حتى إذا رغبت الأم في وضعه داخل حضانة، خلال أوقات عملها الرسمية، فتشترط دور الحضانة تقديم شهادة ميلاد الطفل.
دعاوى إثبات نسب: الحل الوحيد
الحل القانوني المتاح أمام النساء في هذا الوضع، هو إقامة دعوى قضائية لإثبات النسب، وهذا ما ترفضه سارة التي اختفى زوجها، عقب طلاقهما، وقبل وضعها طفلها. ورغم أن شقيقة الزوج تدعمها وتذهب معها خلال محاولات تسجيل الطفل بشكل طبيعي، إلا أن اللائحة التنفيذية للقانون تنص على أن قريب الزوج يجب أن يكون من الرجال، ولم يكن لزوجها أي أشقاء ذكور، ووالده متوفى. ترفض سارة إقامة دعوى إثبات نسب لطفلها، وتقول «لا أريد أن تُستخرج شهادة ميلاده بهذه الطريقة، فماذا سيقول الناس عنه في المستقبل، تزوجت رسمياً وأنجبت طفلاً، ثم اختفى والده، كيف لا أستطيع تسجيله واستخراج شهادة ميلاد له، رغم وصوله لسن سنة ونصف؟". توضح فاطمة صلاح أن غالبية دعاوى إثبات النسب التي تملك فيها الأم عقد زواج رسمياً، تنتهي بالحكم لمصلحة الأم، وتستخرج شهادة الميلاد، لكن الأزمة تكمن في طول أمد التقاضي. وأحياناً يتلاعب بعض الأزواج والمحامين بالثغرات القانونية، لإجبار الأم على التنازل عن النفقة. كما أن بعض الأمهات يرفضن الشكل الاجتماعي للقضية، لأن فيه الكثير من الإهانة. لا يوجد إحصاء دقيق عن عدد قضايا إثبات النسب في مصر، إلا أن تصريحات سابقة للمستشار حسن منصور، نائب رئيس المحاكم الشرعية، قدرت أن المحاكم المصرية، تشهد نحو 15 ألف قضية إثبات نسب سنوياً، بين الأطفال المجهولي الهوية، وقضايا الزواج العرفي، وقضايا إثبات النسب من دون زواج، وصولاً إلى حالات الزواج الرسمي التي يرفض فيها الآباء الاعتراف بأبنائهم.ماذا عن البلاد العربية الآخرى؟
يختلف الحال في الدول العربية الأخرى، فتنص قوانين الأحوال المدنية وتسجيل المواليد صراحة على أحقية الأم في تسجيل ابنها، واستخراج وثائق رسمية له، دون أي شروط. في لبنان مثلاً تنص المادة 11 من قانون قيد وثائق الأحوال الشخصية لسنة 1951، على أن «التصريح بحدوث ولادة يجب أن يكون لدى موظف الأحوال الشخصية خلال ثلاثين يوماً تلي الولادة، أما وثيقة الولادة فيجب أن يضعها ويوقعها الأب أو الأم أو الولي أو الطبيب أو القابلة، ثم يصدق المختار على صحة التوقيع». أما في الأردن فينص نموذج تسجيل المواليد الجدد المنشور على الموقع الرسمي لدائرة الأحوال المدنية والجوازات على الانترنت، على «أن المكلفين قانونياً بالتبليغ عن الولادات الجديدة هم الوالد أو الوالدة، وأي من الأقارب البالغين حتى الدرجة الرابعة، الأطباء ومديرو المؤسسات كالمستشفيات ودور الولادة، والسجون والمحاجر الصحية حيث تتم الولادة». وفي تونس يوضح موقع إدارة الحالة المدنية أن الوثائق المطلوبة لتسجيل مولود جديد يجب أن تتضمن نسخة من هوية الوالدين، دون تحديد. والتبليغ يجب أن يكون من شخص عاين الولادة، أو إعلام من المستشفى أو المصحة التي تمت فيها الولادة. وفي ليبيا أيضاً، تنص شروط تسجيل المولود على إثبات نموذج خروج من المستشفى يثبت واقعة الولادة، وإحضار كتيب العائلة. * الأسماء المستخدمة للأمهات مستعارة من باب الحماية.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ 3 اسابيعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...