الكرم غطى على كل عيب، كذلك يقول المثل، مما يعني أن للكرم عندنا مكانة كبيرة وضخمة، فهو البوابة التي يحوز بها البني آدم في بلادنا على الرضا. للكرم أشكال وألوان لا تعد ولا تحصى، لكن الشكل المعتمد عندنا موحد، مرتبط بالكرم المادي فقط، وعلى اعتبار أنه كرم مادي فهو ملموس، لذلك ما إن يأتي الضيف طارقاً الباب حتى يستقبله المضيف بصحبة خاروف مسكين صدر الحكم بذبحه الآن... ويدخل الضيف قافزاً فوق الدماء وقد انفرجت أساريره، لأن المضيف عرف قيمته، فذبح الخاروف للضيف هو من دلالات الاحترام، لكن الاحترام الشديد هو أن تستقبله بالدماء، إذ يحدث أحياناً أن يأتيك الضيف ولا يكون هناك خاروف جاهز، فتشعر بالارتباك والإحراج، وترحب به بالكلمات المعسولة، محاولاً أن تلهيه عن التفكير بالخاروف، إلى أن يتم إحضار الخاروف الهارب وذبحه أمام أعين الضيف الذي سيبتسم متنفساً الصعداء، فقيمته محفوظة لدى مضيفه إذن. وإذا حدث وأتاك ضيف فذبحت له خاروفاً، وجلستم تشربون القهوة يا طويل العمر بانتظار تجهيز المنسف، ثم أتاك ضيف آخر فماذا تفعل؟!
المنسف سيجهز بعد قليل، والطعام يكفي عشيرة ما شاء الله، وما من مشكلة، أليس كذلك؟ بل هناك مشكلة، فالطعام هنا ليس مادياً بحتاً، إن قيمته المعنوية هي الأهم، فالضيف يقيس أهميته وقيمته بالخاروف المذبوح على شرفه حصراً، لا يمكنه أن يجلس إلى منسف ليس له، وأن يأكل خاروفاً ليس مذبوحاً كرمال عينيه... لذا فإن الخاروف الثاني سيُذبح بدون تردد، هذا واجب تجاه الضيف، حتى لو استعرت الخاروف من قطيع جارك، فالضيف صار على عتبة دارك، والناس ستسأله حين رجوعه عما أكل عندك كسؤال أول بديهي، فإذا كانت الإجابة لا تتضمن خاروفاً مذبوحاً أمام الباب، فإن سمعتك ستذبح في الأنحاء.
لكن الزمن دوار، وحال البلاد والعباد تدهورت، ولم يعد هناك من يذبح خاروفاً للضيف بهذه السهولة، نزلت قيمة الضيف وتسعيرته من خاروف إلى ديك حبش، ومع التدهور الزائد صارت الدجاجة هي القيمة النهائية للضيف. سعرك فروج، شئت أم أبيت، (ويا هلا بالظيف)، والله ما في شي من قيمتك يا معلم، وجود بالموجود، وفرجي عذرك ولا تفرجي بخلك، وغيره من الأقوال الداعمة لموقفك الاقتصادي المتدهور، حتى غدت هذه الأقوال مطلوبة كي ترضي غرور الضيف غير الراضي أساساً.
للظروف أحكام، وكان زمان لما كان الضيف لا يبتسم إلا إذا ذبح الخاروف أمام أعينه، فهو لا يقبل به جاهزاً على المنسف فقط… المسألة ليست مسألة أكل، المسألة مسألة قيمة واعتبار، وقيمة الضيف لا تعلو إلا بذبح خاروف، وقيمة المضيف لا تعلو إلا بذبح الخواريف، حتى سمي من يدفع المال ببذخ في المدينة بالخاروف... اسمه خاروف، والشاطر الذي يسحب منه المال هو الجزار، سواء كان كرسوناً في مطعم، يطنبره بمعسول الكلام ويأتيه بفاتورة ما أنزل الله بها من سلطان ويخوزقه بها، أو مطرباً يحييه على المكروفون، ويشيد به أمام الجمهور، وألف تحية لطويل العمر فلان، فيرمي طويل العمر بالأوراق النقدية على رأس الفنان، ويلم أطفال المجاري الليلية الأموال من تحت الأقدام، ويضعونها في سطل، ثم يقدمونها لصاحب الملهى بكل احترام...
حمى الكرم تجتاح العربان أيما اجتياح عندما تهتز الصدور والخصور والأرداف، فتراهم يرمون بالأموال على الصدر المعروق المهيب، بكل صدور رحبة، بل ويتمادون في الكرم فيرقصون وهم يرمون الأموال على صدور الراقصات على أنغام التحيات الموجهة لبلادهم، ولزعمائهم… هم يرفعون رأس الوطن عالياً الآن في المحافل الدولية، أسماء أوطانهم أضحت على كل لسان، خواريفك يا وطن لم ينسوك، لم يوجهوا التحية للراقصة فقط، ولا للمطربة فقط، ولا للأفخاذ فقط، ولا للصدور فقط!
لا، وجهوا التحية للوطن أولاً، وللزعيم المفدى ثانياً، وللشعب ثالثاً، خاروفك يا وطني، لم يبق كباريه لم يتم ذكرك فيه، لم يبق ملهى لم تهتز أرجاه باسمك، لم يبق مطرب لم يلفظ اسمك، لم تبق راقصة لم تحفظ اسمك، أنت أشهر وطن في ملهى الحصان الجامح، أنت أشهر وطن في كازينو الجوهرة، وشعبنا أشهر شعب في البارات والكباريهات. خواريفك أيها الوطن، لا نعود إليك إلا عندما نفلس، فنملأ الجيوب من جديد بالمال ونهرع إلى بارات الغربة وملاهيها الليلية للنضال، ونرشرش المال حتى ينتهي فنعود إليك من جديد، حزانى كعُربان يعودون إلى الوطن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...