بات من المرجح أن بسطات الكتب على جسر الرئيس، وتحته، وفي الحلبوني، وسوق الحميدية، وسواها من المناطق التي تتكاثر فيها هذه البسطات، ستجني أرباحاً كبيرة من كتاب: تعلم اللغة الروسية في خمسة أيام من دون معلم.
هذا الكتيب البسيط سيحجز له مكاناً مرموقاً إلى جانب صور علية القوم من جورج وسوف إلى الأسود الثلاثة والأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصرالله وخريطة فلسطين، وتمائم الصمود والتصدي، وكتب ابراهيم الفقي وأسطوانات علي الديك ووفيق حبيب، صاحب رائعة “اجرح لي قلبي ولا تداوي... ورش عليه الكيماوي” وما إلى ذلك من تحف ذات دلالات فنية وأخلاقية متماثلة. بات من الكتيبات الأكثر إلحاحاً (بحكم العرض والطلب) على أصحاب البسطات، ذلك أن وزارة التربية السورية حرصاً منها على اطلاع الطلبة السوريين على لغات العالم كافة والنهل من مناهلها، واغتراف الحكمة من منابعها الأصلية، قررت إدخال اللغة الروسية كلغة رسمية "اختيارية" في مناهجها التدريسية ابتداء من العام 2014.
تغيير سيلاحظه حتماً من تبقى من الطلاب السوريين أحياء وغير مهجرين وهم قلة، حيث ذكر تقرير أعده المركز السوري لبحوث السياسات العام الماضي، «لم يلتحق من بين خمسة ملايين تلميذ و265 ألف مدرس وموظف بالدراسة لعام 2012 سوى 22.8% منهم، ومن بين 22 ألف مدرسة في سوريا تم تدمير 2362 مدرسة بشكل كلي أو جزئي غالبيتها تقع في المناطق التي تشهد عمليات عسكرية وبكلفة تقارب 5.7 مليار ليرة سورية».
وأشارت منظمة اليونيسيف UNICEF، في تقريرها الصادر أواخر عام 2013، إلى أنه منذ اندلاع أزمة سوريا اضطر ما يقرب من ثلاثة ملايين طفل سوري إلى التوقف عن التعليم بسبب القتال الذي دمر فصولهم الدراسية، وتركهم في حالة رعب، واضطر الكثير من أسرهم إلى الفرار خارج البلاد.
لا مشكلة طالما أن من تبقى من الأطفال، سيتمكن من استبدال قصص باسم ورباب بمغامرات فلاديمير وناتاشا! خطوة جديدة على طريق التحديث والتطوير تخطوها الدولة السورية، إذ من غير الممكن في عصرنا هذا أن يتعلم طلابنا الأعزاء الأدب الروسي عن طريق الترجمات، وإن كان المترجمون من طينة سامي الدروبي، أو ميخائيل نعيمة، أو غائب طعمة فرمان (الذي ترجم أكثر من مئة كتاب روسي إلى العربية). لا بد من أن يتعلم الطالب السوري قراءة دوستويفسكي وتشيخوف وبوشكين وتولستوي وغوركي وبولغاكوف وأخماتوفا وسواهم من الأيقونات الأدبية والفكرية والفنية الروسية بلغتها الأم، اللغة الروسية.
وزارة التربية السورية قالت على لسان وزيرها الدكتور هزوان الوزّ في مقابلة لموقع المنار "إن الغاية من إدخال اللغة الروسية في المناهج الدراسية تستند إلى حاجة تربوية أساسية هدفها توسيع مصادر المعرفة وتنوعها والتعرف على الآخر والاطلاع على ثقافته وحضارته وصولاً إلى بناء علاقة بين الشعوب ترتكز على الاحترام المتبادل، الحوار بين الحضارات لا صراعها". نافياً بذلك أن يكون للقرار أي صبغة سياسية، ومؤكداً أن اختيار القرار في هذا الوقت بالذات "جاء استكمالاً للتطوير الحاصل في المنظومة التعليمية، فبعد المناهج الحديثة وصدور المراسيم المتزامنة معها"، علماً أن المناهج السورية خلت من أسماء سورية كبيرة وكبيرة جداً، إذ لم تُدرّس قصيدة واحدة لمحمد الماغوط أو رياض الصالح الحسين أو أو أو... حتى نزار قباني، عندما قررت المنظومة التعليمية السورية إقحامه في مناهجها، جاءت بقصيدة "أتراها تحبني ميسونُ؟" التي كتبها قباني لحرب تشرين "التحريرية".
نعم، سنتعلم اللغة الروسية الصديقة، حتى ولو كان الروس أنفسهم يسعون لتعلم اللغة الإنكليزية للتفاهم مع بقية العالم، لا سيّما أنّ من يتحدّث الروسية 164.000.000 شخصاً حول العالم لا أكثر، لكن مجدداً ما المشكلة؟!
نحنُ يعنينا التاريخ، والتاريخ يقول إنّ هذه اللغة المنحدرة من اللغات الهندوأوروبية، تعتبرُ الأكثر انتشاراً جغرافياً في أوراسيا، وأكثرها انتشاراً من اللغات السلافية، وأكبر اللغات الأم في أوروبا... ألا يكفي هذا؟!
الضرورة المنهجية للدولة السورية جعلتها تقرر إدخالَ اللغة الروسيّة التي لا يتحدّثها سوى الروس في العالم، بينما لم تفكّر يوماً بإقرار حق تعليم اللغة الكردية للمواطنين الأكراد السوريين! المنظومة الأخلاقية التي حرّمت على المواطنينَ الأكراد لغتهم، هي ذاتها من أدخل الروسية إلى المناهج اليوم، بقرار "تربوي".
وزير التربية تحدث في المقابلة سابقة الذكر، عن الكوادر السورية التي نالت شهاداتها العلمية من الاتحاد السوفييتي "أيام كان" والتي تصل نسبتُها على حد قوله إلى 50% من شهادات أساتذة الجامعات السورية، وهي كوادر ملمّة تماماً باللغة الروسية، وتستطيع التكفل بالمهمّة!
إذا كان القرار مبنياً على حاجة تربوية لا سياسية كما قال السيد الوزير في المقابلة، فهل من المعقول الاستهتار باللغة الروسية وتكليف أيّ من متحدّثيها بتدريسها؟!
نعم سنتعلم اللغة الروسية، بات بإمكان طلّابنا الرقص في احتفالات تجديد البيعة على أنغام كورساكوف وتشايكوفسكي وروبنشتاين، كما وبات باستطاعتهم أن يقولوا نعم للقائد بأكثر من لغة إذ أضيفت للــ نعم، والــ yes، والــ oui، الــ Да أيضاً!
ليتّضحَ للقاصي قبل الداني أن "قلة من الأنظمة تدلل طلابها كما يفعل النظام السوري".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...