في غرفة صغيرة، اجتمع أفراد عائلة عطاف*، للتباحث في "مسألة غسل عار العائلة"، بعد أن حمِلت ابنة الـ15 عاماً نتيجة اعتداء جنسي. أثناء ذلك، تسللت إلى مسامع الطفلة، التي كانت تتخذ من إحدى زوايا الغرفة المجاورة مخبأً لها، قرار عائلتها "بقتلها".
صراخ الطفلة ونوبة البكاء الهستيري قطعا الاجتماع، ودفعا الأم لطمأنة ابنتها أن شيئاً من هذا لن يتم. استسلمت عطاف لكلمات والدتها ونامت على صدرها، وبعد ساعات نفّذ أصغر أفراد الأسرة القرار بإطلاق 8 أعيرة نارية على مختلف أنحاء جسد شقيقته.
ربما بفضل الحظ، أو لغياب الرغبة الفعلية لدى الأخ بقتل شقيقته، نجت عطاف من الموت بأعجوبة. فأي من تلك الطلقات لم تصبها في المقتل. تم نقل عطاف إلى أحد المستشفيات لتلقي العلاج، ونجت هي وجنينها، الذي كانت تحمله في الشهر الثامن.
عقب الحادثة، تم إيداع عطاف إحدى دور رعاية الفتيات المعرضات للخطر، فتلقت الرعاية والدعم من مجموعة القانون لحقوق الإنسان "ميزان"، التي عملت على ايجاد تسوية للخلاف بين الفتاة وعائلتها.
تستذكر المديرة التنفيذية لمجموعة ميزان المحامية إيفا أبو حلاوة تلك الحادثة التي مرت عليها سنوات، كنموذج للحالات التي تظهر فشل منظومة الرعاية الاجتماعية في توفير حلول للنساء والفتيات المهددات بالقتل.
تقول أبو حلاوة: "لم يكن القتل خياراً مرغوباً لدى الأسرة، فقد تعرضت ابنتهم لاعتداء جنسي، وبسبب الخوف، لجأت عطاف إلى إخفاء قصة الاعتداء، لكن مع بدء ظهور ملامح الحمل عليها، ومع بلوغ حملها الشهر السابع لم يعد إخفاء الاعتداء ممكناً".
وتضيف: "تم تحويل الفتاة إلى الحاكم الإداري، وأظهرت عائلة الفتاة أمامه تفهماً لحالة ابنتهم وتعاطفاً معها. وبناءً على ذلك قرر تسليم الفتاة لعائلتها، وبالفعل احتضنت العائلة الابنة، وحاولت البحث عن حلول. إلا أن الأسرة اصطدمت بغياب تام لأي جهة إرشادية أو مؤسسة تقدم خدمات المشورة الاجتماعية والنفسية، وعدم معرفة هوية الجاني، والفشل في العثور على طبيب يقبل بإجراء عملية إجهاض للحمل". فاعتبار الإجهاض فعلاً مخالفاً للقانون في الأردن، وتقدم الحمل للشهر السابع، جعلا الأطباء يرفضون إجراء العملية. وافق طبيب واحد فقط على ذلك، لكنه تراجع عن قراره بعد أن علم بوجود ملف أمني للقضية ومتابعة من الحاكم الأردني.
مع انعدام فرص الإجهاض، وتحت ضغوط العائلة الموسعة للتخلص من العار، جاء قرار إعدام عطاف.
تؤكد أبو حلاوة: "لم ترد العائلة يوماً قتل ابنتها، تعاطفوا معها ومع مرارة تجربتها، لكن المحيطين هم من أرادوا القتل، لم يكن الجاني الحقيقي من صوب السلاح تجاه عطاف، الجاني هو البيئة المحيطة التي صنعت من الشقيق مجرماً".
مع انطلاق حملة 16 يوماً لمناهضة العنف المبني على النوع الاجتماعي، أطلقت منظمات نسوية، وعلى رأسها اللجنة الوطنية لشؤون المرأة، حملة تحت شعار "أوقفوا قتل النساء والفتيات". جاءت الحملة بعد أن شهدت الأردن 38 جريمة قتل نساء خلال 10 شهور، غالبيتها قضايا قتل داخل إطار الأسرة، منها 8 جرائم تتعلق بما يسمى "جرائم الشرف".
وبالتزامن مع إطلاق الحملة، أصدرت دائرة الإفتاء فتوى تحرم القتل بداعي الشرف. وبحسب نص الفتوى: "قيام الشخص بقتل قريبته بدعوى حماية الشرف وصيانة العرض، فعل محرم شرعاً، وجريمة يجب أن يحاسب القاتل عليها. وأن لا تكون القرابة أو الشك عذراً مخففاً له، لأن الأحكام لا تثبت بالشك، ولأن القضاء هو من يتولى إصدار الأحكام ويتابع تنفيذها لا الأفراد".
رغم الزخم الكبير الذي حققته الحملة، فإن شعارها تعرض لانتقادات كبيرة، باعتبار أن "القتل بكل الأحوال محرم شرعاً"، والجدير هو الدعوة إلى "وقف تبرير قتل النساء". فالمشكلة ليست دينية وليست بحاجة إلى فتوى، المشكلة في مجتمع يبرر قتل النساء بل ويحرض عليه.
ليس الجاني في جرائم قتل النساء من أقدم على القتل، إنما التشريعات التي تخفف من عقوبته والمنظومة الاجتماعية التي تمجد أفعاله
“يستفيد من العذر المخفف من فوجئ بزوجته أو إحدى أصوله أو فروعه أو أخواته حال تلبسها بجريمة الزنا، فقتلها في الحال”!في مقال له بعنوان "فتوى لن تحمي النساء من القتل"، يقول الكاتب فهد خيطان: "الفتوى على أهميتها، لكن من غير المرجح أبداً أن يكون لها أي تأثير في الحد من هذه الجرائم، كذلك حملة الـ16 يوماً، وغيرها من حملات التوعية. حتى في حال تعديل مواد بقانون العقوبات، لتغليظ العقوبات، فإنها لن تترك صدى في الأوساط الاجتماعية التي تقع فيها هذه الجرائم". ويوضح أن محرك الرجال لارتكاب مثل هذه الجرائم، ليس دينياً في معظم الأحوال، بل هو اجتماعي، يتصل بثقافة ضاربة في الجذور، ترى أنه دفاع مشروع عن سمعة العائلة وشرفها، في مجتمع يضع مثل هذه المفاهيم في مرتبة مقدسة. ويعتبر سلوك المرأة، لا الرجل طبعاً، المعيار الأهم في هذا الميدان. وعليه وحده تقع مهمة الدفاع عن سمعة العائلة وشرفها، وله في كل الحالات أن يضع التكييف المناسب لهذا الدور الذي يرتقي إلى مستوى الواجب. تشكل حالة الشقيقان مصعب ومروان*، نموذجاً آخر لرجال أجبرهم المجتمع على قتل شقيقتيهما، قبل نحو 15 عاماً، بعد أن تغيبت الفتاتان عن منزل الأسرة لمدة عام كامل. طوال عام تعرض الشابان لضغوط ومضايقات من سكان المنطقة. وبعد فترة استدلا على مكان سكن شقيقتيهما، وأقدما على قتلهما. قبل إقدامهما على الجريمة، أخبرته إحدى الشقيقتين بوجود طفل لها في شهره الثاني من العمر، نائم في الغرفة المجاورة. بعد قتلها، أخذ الطفل وسلمه إلى الجدة لترعاه، ثم سلم نفسه للجهات الأمنية. حكم الشقيقان بالحبس لمدة 12 عاماً، فيما بقي الطفل برعاية جديه. تقول الجدة: "لم يصارحني ابني بندمه بعد سنوات من الجريمة، لكنني أشعر بهذا الندم، بعد خروجه من السجن كان يتعامل بتعاطف مع ابن شقيقته. للأسف كان من الممكن أن تبقى ابنتي حية وأن يتجنب أبنائي السجن، لكن لم يساعدنا أحد". في هذا السياق، تقول أبو حلاوة: "يصعب فعلياً وضع جميع الجناة أو جميع الجرائم ضمن فئة واحدة، ففي حالات يكون بها الجاني ضحية للمجتمع، وفي حالات أخرى يكون لدى الجاني القناعة بأنه يمتلك ضحيته بشكل تام. كثير من النساء يتعرضن للعنف الأسري خلف أبواب مغلقة وبصمت، تخشى الضحية من الشكوى، بسبب معتقدات اجتماعية تفرض على المرأة تحمل العنف من قبل الرجال في عائلتها". قبل أشهر عدة، شهد أحد شوارع مدينة الزرقاء إقدام رجل على قتل زوجته بالرصاص، واتجه ناشطو مواقع التواصل الاجتماعي، لتبرير الجريمة على أنها "بداعي الشرف". بعد ساعات خرجت أسرة الضحية، لتوضح ما تعرضت له ابنتها. تبين أن المغدورة هي بالأساس ضحية لزواج مبكر. تزوجت وهي في الـ15 من عمرها، وعاشت حياتها مع زوجها معنفة. ويروي أحد أقاربها أن زوجها كان يجبرها على تقبيل يده كل صباح، إلى جانب منعها من زيارة عائلتها أو استقبالهم. بعد 25 عاماً من المعاناة قررت المغدورة أخيراً الانفصال عن زوجها، الأمر الذي لم يتقبله الزوج ليقدم على قتلها في الشارع العام. لا تكمن المشكلة في المجتمع الذي يبرر قتل النساء ويوجه أصابع الاتهام لأخلاق المرأة عند السماع عن أي جريمة، بل تمتد كذلك الى قانون العقوبات الأردني، الذي يوفر بنوداً تخفيفية للتقليص من العقوبة على الرجل، في جرائمه ضد أقاربه من النساء، والذي غالباً ما يُطبق على جرائم القتل داخل الأسرة وجرائم قتل النساء. تنص المادة 98 من قانون العقوبات على: "يستفيد من العذر المخفف فاعل الجريمة، الذي أقدم عليها بثورة غضب شديد ناتج عن عمل غير محق وعلى جانب من الخطورة أتاه المجني عليه". بينما تنص المادة 99 على تخفيض العقوبة إلى النصف، في حال إسقاط الحق الشخصي. كما تنص المادة 340 منه على أنه يستفيد من العذر المخفف من فوجئ بزوجته أو إحدى أصوله أو فروعه أو أخواته حال تلبسها بجريمة الزنا أو في فراش غير مشروع، فقتلها في الحال، أو قتل من يزني بها أو قتلهما معاً أو اعتدى عليها أو عليهما اعتداء أفضى إلى موت أو جرح او إيذاء أو عاهة دائمة. بالمحصلة ليس الجاني في جرائم قتل النساء من أقدم على القتل مباشرة، إنما هي تشريعات قانونية تخفف من عقوبة الجاني، وهي منظومة اجتماعية، تمجد الجاني وتبرر أفعاله، إلى جانب غياب منظومة الحماية، ومؤسسات الخدمة الاجتماعية التي توفر الحماية للنساء. *تم تغيير الأسماء نظراً لحساسية الموضوع وبناءً على طلب الأشخاص.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...