تجتمع في قطاع غزة جميع تناقضات الحياة في تجلٍ لا مثيل له، لترسم لوحة يُظهِرُ مطلعها شجرة زيتون مُزهرة يقف أسفلها مزارع «يَجِدُهَا» (يضربها بالعصا)، ليتساقط على الأرض زيتونها. وفي زاوية أخرى، حجارة تتطاير على حاجز إسرائيلي، تعلن تمرداً. وتظهر تلك اللوحة أيضاً زرقة البحر الممتد من شمال القطاع حتى جنوبه، وتتهادى على ضفافه مبانٍ متهالكة في بعض المناطق، وفنادق ومنازل فارهة في مناطق أخرى.
[caption id="attachment_84659" align="alignnone" width="700"]
الصورة لوسام نصار[/caption]
القطاع الذي يشبهه قاطنوه بـ«علبة السردين»، تحده من الجنوب مصر، ومن الغرب البحر المتوسط، ومن الشرق والشمال دولة الاحتلال الإسرائيلي. مساحته التي لا تتجاوز الـ360 كلم مربع، يعيش عليها نحو مليونين. ولترصد أوجه الحياة هناك، عليك أن تتعرف أولاً على المواهب التي خرجت من المعاناة، مثل الفنان محمد عساف، الفنان محمد الديري، الفنانة روان عليان، فرقة التخت الشرقي، فرق رياضة الباركور، وغيرها. هذه الأسماء اللامعة التي حجزت لنفسها مقعداً في مصاف المواهب المرموقة في جميع أنحاء العالم.
بين الكروان والديرة، «حكايا لا تنسى»
خلال سيرك على الشاطئ الغربي للقطاع، سترى فندق «الديرة»، بلونه القرميدي وطرازه المعماري القديم، بقبابه الحديثة وأنواره. وستسمع «أبو علي القصبغلي»، أحد أقدم الفنانين في قطاع غزة يصدح بصوته الشجي: "غنيلي شوية شوية.. غنيلي وخد عينيا.."، بينما يتفاعل الجمهور بالتصفيق حيناً، ونفث دخان النرجلية أحياناً، في تحدٍ واضح لمصاعب الحياة، التي سيعودون إلى مزاولتها بعد انتهاء حفلهم هذا. [caption id="attachment_84550" align="alignnone" width="700"] فندق الديرة[/caption] أما "قهوة الكروان"، الواقعة في منطقة الجندي المجهول (نصب تذكاري يقع وسط القطاع)، فهي أحد أركان القطاع الأساسية، وتعتبر مكاناً لتجمع الشباب، بسبب قربها من منطقة الجامعات. كل ما تسمعه حين تجلس في الكروان، هو صراخ "بري"، القهوجي الذي يعمل في المكان: "الحقنا بكبايتين شاي وشيشة تفاح". وحين تسير في شارع «عمر المختار»، الذي يعتبر من أشهر الشوارع في غزة، ينتابك شعور مزدوج: الحنين للماضي والإعجاب بالتطور العمراني، الذي آل إليه هذا الشارع. تجد على جنباته متاجر تبيع كل شيء قد يخطر ببالك، بدءاً من الملابس وانتهاءً بالصناعات اليدوية. وهذا الشارع بمثابة عمود فقري في جسد مدينة غزة من الناحية الجغرافية والاقتصادية والسياسية أيضاً، فغالبية الفعاليات السياسية التي تدعو إليها الفصائل في القطاع، تجري في ذلك الشارع، الذي يقع في مطلعه المجلس التشريعي. ويقع قصر الضيافة الخاص بالزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات على مقربة من هذا الشارع أيضاً. ويتمتع الشارع بتعدد أسواقه التي تكتظ بالمحال التجارية، مثل: سوق «القيسارية»، وهو السوق الوحيد، الذي يختص ببيع الذهب وتصنيعه. وسوق «بيع الخضار»، وسوق «العملة» (تجارة النقود). وينتهي الشارع بسوق «البسطات»، حيث عربات متواضعة توضع عليها الملابس تمهيداً لبيعها، وغالباً يكون المتسوقون من أصحاب الدخل المحدود. [caption id="attachment_84557" align="alignnone" width="700"] سوق القيسارية[/caption] وعن الثقافة والفن في قطاع غزة، لا بديل عن "مركز رشاد الشوا الثقافي". ذلك المبنى الذي يقع في مركز القطاع، وقام بتصميمه المهندس البريطاني السوري المولد، سعد أسعد محفل، وافتتح عام 1988. وقد رشح المبنى عام 1992، لنيل جائزة «الآغا خان للإبداع في الهندسة المعمارية». وكان الهدف من بناء المركز إنهاء العزلة الثقافية والحضارية، التي عانى منها الشعب الفلسطيني في القطاع، خلال فترة الاحتلال الإسرائيلي.الطعام، متعة لا تضاهيها متعة
مطاعم القطاع رغم قلتها، بسبب اعتماد السكان على الطهو في منازلهم، تتميز بإعداد جميع أنواع وأصناف الأطعمة باستخدام التوابل والبهارات بمقادير وأنواع معينة، تضفي على الطعام لذة خاصة. يوم الجمعة يعتبر يوماً مميزاً، ففيه تجتمع العائلات الممتدة والكبيرة حول مائدة واحدة، وغالباً يبدأ السكان في القطاع تناول وجبة الغداء بعد أداء صلاة الظهر مباشرة، والصنف الأساسي هو الدجاج، الذي يتم شراؤه طازجاً صباح ذلك اليوم. [caption id="attachment_84658" align="alignnone" width="700"] الصورة لوسام نصار[/caption] بالعودة إلى شارع «عمر المختار»، يقبع في مطلعه على الجهة الشمالية مطعم «معتوق»، المكتظ بالزبائن بسبب السمعة التي اكتسبها حتى بات اسماً يتفاخر الغزيون بجلب ولائمهم منه. أما عن يمينك في نهاية ذلك الشارع، فستعرف من طابور البشر المصطف على باب أحد المتاجر، أنك أمام «جيلاتي كاظم». هو أحد أعمدة قطاع غزة الأساسية، فمن لم يتذوق البوظة (الآيس كريم) من «جيلاتي كاظم»، لم يتذوق بعد النكهة الجميلة للقطاع.«للخمر متعة أخرى»
"أحاول استغلال قدوم الوفود والصحافيين الأجانب إلى القطاع، لعلي أحظى بزجاجة من الويسكي المستورد، الذي يعتبر مشروباً من النادر جداً أن تجده في القطاع، بسبب الحكم الإسلامي الذي تمثله حماس، والأعراف الاجتماعية التي ترفض تلك المشروبات"، يقول "أحمد.س" لرصيف22. ويوضح: «لا أحد يقدر على إدخال المشروبات الكحولية إلى القطاع، سوى الزائرين الأجانب، الذين تربطني ببعضهم علاقة صداقة وثيقة، بسبب طبيعة عملي في مؤسسة تابعة لهيئة الأمم المتحدة في القطاع". ولكنه يضيف: "لم أحاول يوماً أن أهاجر، فأنا متعلق بهذا المكان الجميل، وأثق كثيراً بأن الأحوال ستصبح أفضل مما هي عليه الآن». ويقول "ذلك الزير المصنوع من الفخار في تلك الزاوية من المنزل، أعتق فيه العنب لأصنع منه مشروباً يشبه النبيذ، وأقوم بتقديمه لضيوفي الذين يقبلون بتناوله. فهناك الكثير من الناس يخافون الشرب، من منطلق أن ما نصنعه غير مضمون، مع أنني أثق بالطريقة التي صنعته بها وتعلمتها من أحد أصدقائي، خلال إحدى الزيارات إلى لبنان"."جولة سياحية" في غزة... التفاصيل والأماكن التي يحبها سكان القطاعولقطاع غزة المحاصر وضع يختلف عن سواه من المدن الفلسطينية، فالسهرات قد تطول فيه لأن النهار التالي غالباً سيكون مثل الذي سبقه. وأصبحت السهرات الشبابية المتنفس الوحيد للشبان، في ظل معاناتهم من البطالة. وغالباً، تتم تلك السهرات على أبواب المنازل، أو في الكافيهات المنتشرة في شوارع القطاع، والتي تعرفها من رائحة الشيشة التي تملأ الأماكن. [caption id="attachment_84660" align="alignnone" width="700"] الصورة لوسام نصار[/caption] يقول محمد مطر (27 عاماً): «نستمتع بالسهر مع شباب الجيران فوق سطح منزلنا. ولأن والدي لا يريدنا أن نتأخر خارج المنزل ليلاً بنى غرفة مستقلة فوق سطح المنزل نستخدمها في مجالسنا الخاصة ونقضي فيها سهرتنا ولكن بشرط أن يكون صوتنا منخفضاً حتى لا نزعج الجيران». بينما يقضي سامي الشيخ (23 عاماً) سهرته في مقهى "رنوش"، الذي يقع في شارع عمر المختار. يقول الشيخ: "رنوش من المقاهي الرائعة لأنني أقابل فيه الكثير من أصدقائي القدامى، بسبب وقوع المقهى في الوسط. ويعتبر من الأماكن التي يحب أن يقضي فيها الشباب سهراتهم. لا يوجد يوم معين للسهر على اعتبار أنه يوم عطلة، فجميع الأيام في القطاع تتشابه».
لا أهمية للمواصلات هناك
بسبب صغر مساحة القطاع التي لا تزيد عن 360 كلم، غالباً ما يفضل السكان السير على أقدامهم، كنوع من الترفيه عن أنفسهم. وخلال سيرك في شوارع القطاع، ترى أنه ما من شارع يخلو من مجموعة من الأطفال، الذين يلعبون كرة القدم، وغالباً يكون الهدف مجموعة من الحجارة توضع على خطٍ مستقيم، ويجب على اللاعبين إدخال الكرة بين تلك الحجارة لاحتساب الهدف. وتحتوي غزة على بعض المناطق الأثرية، كقلعة برقوق في مدينة خانيونس جنوب القطاع، والمسجد العمري الكبير، الذي ما إن تنهي صلاتك فيه وتخرج من أبوابه، حتى تجد نفسك في سوق الزاوية، أقدم أسواق القطاع. ولن أحدثك عن النفق المحفور أسفل المسجد، ويمتد من باحات المسجد الواقع شرق القطاع، حتى شاطئ البحر في غربه. يقال إن هذا النفق كانت تسلكه الملكة البيزنطية «هيلانة» عند توجهها إلى البحر... [caption id="attachment_84558" align="alignnone" width="700"] قلعة برقوق[/caption] [caption id="attachment_84555" align="alignnone" width="700"] سوق الزاوية[/caption]رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين