على الرغم من أن الموت يتربّص بسكانها في كل لحظة، وعلى الرغم من الحصار الذي تعانيه، فإن غزة ترحب دائماً بمن يلجأ إليها. وقد احتضنت العائلات التي هربت من الأحداث في سوريا، ووفرت لهم الأمن بعيداً عن العدوان المتكرر.
وجد السوريون في غزة مكاناً مناسباً لبدء مشاريع جديدة لم تعتدها المدينة المحاصرة. وتدريجياً، بدأت تغزو شوارع غزة النكهة السورية المميزة، التي لطالما كانت غائبة عنها، فالحصار ليس اقتصادياً فقط، بل يحاصر كل ما هو جديد في عالم الأطعمة.
"جار القلعة" هو اسم مطعم سوري افتتح قبل عدة أيام في مدينة النصيرات وسط مدينة غزة. وفي هذا المطعم ذكريات دمرتها الحرب السورية، لكن احتضتنها غزة وأحيتها.
ذكريات
يقول أنس قاطرجي، 38 عاماً، صحاب ومؤسس مطعم "جار القلعة": "تأسس المطعم في مدينة حلب عام 2005، وهو أحد أضخم المشاريع التابعة لشركة قاطرجي للتجارة والمقاولات، وموقعه تحديداً في حلب القديمة، في أحد الخانات، الذي يسمى خان البرشان، المقابل لقلعة حلب. كان يمتد على مساحة 1500 متر، ويحتوي على عدة جلسات، منها الداخلية ومنها الخارجية، والتراسات، وجميعها كانت تتسم بالطابع الشرقي الحلبي". ويضيف: "عمل في المطعم ما يقارب الـ60 شخصاً بين شيف ومازجي وطباخ وموظف خدمة وإداري. واشتهر المطعم بتقديم المأكولات الشرقية والطبخات الحلبية والسورية والمأكولات الغربية والمقبلات السورية". وأوضح صاحب المطعم أنه تم تطوير المكان عام 2009، وتحويله إلى فندق ومطعم، وجرت إعادة ترميم بعض المعالم الأثرية التي كانت قد اختفت تحت الأرض، بسبب الزلازل والحروب التي أصابت مدينة حلب سابقاً. وأعيد العمل من جديد في المطعم والفندق عام 2011، ليتم إغلاقه عام 2012، بسبب الحرب القائمة في حلب. وفي عام 2014، ظهر مقطع مصور لتفجير، تدمرت على أثره أجزاء كبيرة من المكان بسبب الحرب الدائرة في محيط قلعة حلب، ولا يزال مصير المكان مجهولاً حتى اللحظة، بسبب استحالة الوصول إلى أحياء حلب القديمة.اللجوء والاستقرار
خرج أنس قاطرجي إذاً من حلب قسراً، نهاية عام 2012، عندما ضاق به الحال على وقع ضربات القصف والتدمير ورائحة الدماء. حينها، توجه إلى الريف الشمالي، ثم إلى تركيا، مروراً بمصر، وانتهاءً بغزة، في رحلة شاقة ومحفوفة بالمخاطر، حاملاً معه هوايته وتميزه في الطهو.لم يختر تركيا أو لبنان، بل قطاع غزة المحاصر لإعادة افتتاح مطعمه الحلبي... وللمرة الأولى في غزة، نكهة المطبخ السوريفي البداية، حالت اللغة دون إكمال حياته في تركيا، فتوجه إلى القاهرة بناءً على نصيحة أقاربه، لكن التجربة باءت بالفشل، إذ لم يجد الراحة في مصر، وشعر بالغربة عن بلده، نتيجة اختلاف المناخ والعادات والتقاليد. عمل خمسة أشهر في فنادق ومقاهٍ في مناطق مختلفة من مصر، قبل أن يتعرف إلى مواطن من قطاع غزة، ويعرض عليه العمل في مطعم له في غزة. تردد القاطرجي كثيراً بين العودة إلى تركيا والعمل في مطاعم عربية، والذهاب إلى غزة المحاصرة، بناءً على دعوة أحد أصدقائه الغزيين، ولكنه قرر في نهاية المطاف الاستقرار في غزة، بعد أن زارها واكتشف صورة أخرى غير الصورة النمطية المرسومة عن مكان يحاصره الاحتلال الإسرائيلي. دخل قاطرجي غزة عبر الأنفاق في صيف العام 2013، ويقول: "وجدت الثقة الكبيرة من صاحب المطعم الذي أعطاني خمسة آلاف دولار لشراء أغراض للمطعم من مصر، وعرّفني إلى عائلته وأهله، وكان بيننا مودة واحترام، فكان ذلك أقوى من عقد العمل الذي بيننا". وأشار إلى أنه وجد في غزة عادات وتقاليد وأطباعاً قريبة من تلك التي كانت في مسقط رأسه، حلب، ما شجعه على البقاء فيها. ولفت إلى أنه خلال أيامه الأولى في العمل، وجد أن المأكولات التي تُقدم في مطاعم غزة تقليدية. فقرر تغيير ثقافة الوجبات، خصوصاً المشاوي والأطباق الشرقية والغربية، وأضاف إليها أصنافاً كثيرة بأنواع مختلفة، وأدخل المذاق الحلبي إلى الكثير من المأكولات.
تحدي الصعاب
ظروف غزة المحاصرة لم تكن أفضل بكثير من الظروف التي تمر بها سوريا. فهي تتعرض لحروب ترهقها وحصار يخنقها، كما تتعرض سوريا. يقول قاطرجي: "عندما جئت إلى غزة واطلعت على قسوة الظروف الاقتصادية، ترددت في الاستثمار فيها، لكنني أردت أن أغامر لأحقق طموحي". ويضيف: "قررت أن أتعايش مع الوضع الذي يعيشه سكان القطاع، وأن أبدأ من الصفر كما يبدأ الكثيرون، فكان أول مشاريعي في القطاع، افتتاح مطعم للمأكولات الشامية، يحمل اسم أزمير، نسبةً لمدينة تركية، لكنه لم يستمر كثيراً وأغلقته". ويشير إلى أنه لم يفقد الأمل كثيراً، فساهم مع أحد أصدقائه الذين هاجروا معه من سوريا، في افتتاح مطعم آخر، أطلقوا عليه اسم "سوريانا" لتقديم الأكلات الشامية، ووجدوا إقبالاً كبيراً من الغزيين. ويضيف: "حين وجدت إقبالاً على الأكل السوري في مطعم سوريانا، قررت أن أستقر وحدي، وأعيد افتتاح مطعم جار القلعة، الذي دمرته الحرب السورية، بالتصميم الداخلي والخارجي نفسه. ويبين قاطرجي أنه جمع بعض المقتنيات والأنتيكات المستخدمة في مطعمه في حلب، والتي استطاع أن يهرب بها، قبل أن يطالها الدمار، ليتمكن من استخدامها مرة أخرى في غزة، ويضفي بها على مطعمه التراث والطابع السوري. تمكّنُ أنس من إعادة بناء مطعمه، لن يكون نهاية طموحه وأحلامه، فهو يؤكد أنه يطمح إلى أن يمتلك عدة مشاريع استثمارية في غزة المحاصرة، بالإضافة إلى افتتاح فروع لمطعم "جار القلعة" في جميع مناطق القطاع، ليوفر أكبر عدد ممكن من فرص العمل لشباب غزة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...