كأي كائن آخر على وجه هذه الأرض الفسيحة، للظواهر الفريدة دورة حياة ومراحل نمو، وطرق تكاثر خاصة بها. لنأخذ الظواهر الفريدة في الكتابة والفنون مثلاً، تسمع الكثيرين يقولون اليوم ”هذا الشاب يكتب بشكل جيد، أنظر إنّه يكتب كما يفكر تماماً وكما يشعر. نصوص عفوية، تشبه ما يفكر به كل منا، إنّه ظاهرة فريدة حقاً“.
يترافق ذلك غالباً مع جلد ونكران أية مدراس أو اتجاهات سابقة للظاهرة الفريدة (الرمزية مثلاً، يا للكهولة!). لم يخفَ على أحد مثلاً الفرحة العارمة التي رافقت ظهور أفلام الدوغما المتقشفة، والاحتفاء بأن يظهر الممثلون على المسرح ليتصرفوا بمرح بالغ وارتجال كليّ.
للأسف، ليس من شيء يدوم للأبد، في وقت ماض كانت الكليشيهات التي نسخر منها اليوم في أساليب الكتابة والتصوير والتمثيل نجمة زمنها. هذه الكليشيهات لم تمت، إنّها تتربص بنا في مكان ما خفيّ من هذا العالم، متابعة أنباء المذاهب الجديدة كلها بلؤم، ومنتظرة اللحظة التي ستكمل فيها كل هذه الظواهر الفريدة دورة حياتها وتنتهي لتنقضّ علينا ببراثنها مجدداً. ما هي مراحل الظاهرة الفريدة؟
مرحلة البيضة
في هذه المرحلة لا تكون الظاهرة الفريدة مدركة لكونها ظاهرة فريدة أصلاً. غالباً ما تكتفي بتفحص محيطها بفضول. قد تشعر أنّها غير متوافقة معه، لكنّها لا تباشر التعبير عن ذلك على الفور، ربما تميل الظواهر الفريدة التي تتحلى بشيء من اللباقة حتى إلى محاباة هذا المحيط أحياناً رغم شعورها أنّ هناك أمراً ما ليس على ما يرام. كثيراً ما تتذكر الظواهر الفريدة لحظات من مرحلة البيضة هذه، اضطرت فيها لإبداء الإعجاب أو على الأقل عدم إبداء الاشمئزاز مما قدمته ظواهر غير فريدة على الإطلاق فيما مضى.
مرحلة اليرقة
الظاهرة الفريدة أقوى الآن، لقد اتخذت طريقها من كونها مجرد جزء غير مرئي في مجتمع هائل من الظواهر غير الفريدة وبدت قادرة على شق طريقها بحيوية بين الجموع. ذلك ليس سهلاً، قبل أن تحصل على الشهرة، لن يمنع أحد أية ظاهرة غير فريدة من الاستسخاف بأي شيء تنجزه والتعامل معه كترهات. الكثير من الأسباب تدفع المرء للتفكير بأنّ أول من فكر بكتابة رواية تبدأ من نهايتها لم يلق الكثير من التشجيع والترحيب بهذا الاقتراح.
مرحلة الشرنقة
جوهر حياة الظواهر الفريدة يتم سبكه الآن ببطء داخل جدران سميكة، مشروع الظاهرة الفريدة جاهز ولكنّ بحاجة لبعض الوقت قبل أن يخرج به أخيراً إلى العلن. الظواهر غير الفريدة الكثيرة مستمرة بالتكاثر والنشاط والحركة في الخارج، ولكنّ هذا آخر هموم الظاهرة الفريدة الآن.
مرحلة الفراشة - الذروة وانهيار الظاهرة الفريدة
لقد انطلقت الظاهرة الفريدة إذاً بأجنحتها إلى العالم الفسيح. الجميع متلهف لقراءة ما يكتبه ذلك الذي "يكتب ما يخطر بباله تماماً". الظواهر غير الفريدة تبدو مفتوحة الشهية للغاية لاستقبال كل ما تنتجه الظواهر الفريدة مثنية على هذا المنجز في كل فرصة. بعد فترة من الوقت، سيقوم العامل العددي بتدمير الأساس الذي تقوم عليه فكرة الظاهرة الفريدة: كونها فريدة. ستغري البهجة المحيطة بالظواهر الفريدة غيرها من الظواهر غير الفريدة لتنضم إلى النادي. الشاب الذي يكتب ما يخطر بباله تماماً دون بلاغة وببعض الفجاجة والمباشرة لم يعد وحيداً. لقد اجتذب مع الزمن من يفعل الشيء نفسه مع إضافات متنوعة تجعله منافساً قوياً، لينتهي الأمر بأننا بتنا نرى الكثيرين ممن يكتبون ما يخطر ببالهم تماماً وما يشعرون به دون تزويق لغوي واستعارات بائدة. إذا كان الكل قد أصبح كذلك، فما هي الخطوة التالية؟
المرحلة الأخيرة، لحظة الثقب الأسود
في لحظة تاريخية لطالما تكررت منذ نشأة البشرية، في تلك اللحظة الحاسمة القدرية المدونة في لوح الغيب بعناية، وعندما تبلغ الظواهر الفريدة الحد العددي الأخير لتصبح غير فريدة على الإطلاق. سيفتح مجموع الظواهر غير الفريدة فمه باتساع ليبتلع الظاهرة الفريدة محولاً إياها إلى جزء منه: كتلة هائلة متجانسة موحدة الملامح من ظواهر غير فريدة على الإطلاق، بقعة كبيرة غير مثيرة للاهتمام ولا يمكن أن يلتفت أحد إليها ليستطلع أمرها.
في هذا الوقت الحرج، ثمة شرنقة جديدة تنتظر الخروج للنور واستقطاب الانتباه من جديد، ثمة أدلة كثيرة تشير إلى أنّ آخر هذه الظواهر الفريدة التي ستنتج نفسها مجدداً لن تكون إلا تلك الكليشيهات القديمة نفسها والتي تخلينا عنها يوماً ما، قبل أن يقوم الناس بالتعبير عما يفكرون به مباشرة.
ستتفتح تلك الشرانق لتغرق العالم مجدداً بكل طريقة فقدت مجدها في يوم من الأيام، سنقطع التذاكر لحضور أفلام الحب الصامد المستحيلة التي يتصارع فيها الشرّ المطلق مع الخير المطلق ليخسر أمامه، ستعود قصص الحيوانات لتعبر برمزية وتحايل عن أحداث نعيشها، وسنفتح الكثير من الروايات لنعود ونقرأ مقدمات من نوع "في تلك القرية الغافية على كتف النهر الذي تنساب على صفحته أشعة الشمس" أو شيئاً ما شبيهاً عن السنابل.
بعد ذلك، تخرج مراجعات نقدية مادحة الأسلوب "عذبٌ مسترسل الإيقاع، برع في توظيف الصور الطبيعية لصالح التشابيه الذكية".
في الحقيقة قد نواجه وقتاً صعباً في هذه المرحلة. هي الحياة هكذا.
تم نشر هذا المقال على الموقع في تاريخ 21.10.2013
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين