يتألّف العرض السمعي – بصري الذي قُدِّم في مركز مينا للصورة، بيروت، من إسقاطٍ ضوئي (تصميم وتنفيذ أيمن نحلة)، موسيقى إلكترونية (تأليف وأداء زياد مكرزل)، بمرافقة عزفٍ حي على آلة الدرامز (أكرم حاج).
على مدى ثلاثين دقيقة اتفق ثلاثة فنّانون على تأليف وأداء عرضٍ حيٍّ أمام الجمهور، مبنيٍّ على مفهوم تحوّلات الصورة، أو تحوّلات العلامة الموسيقيّة أو الجملة اللحنيّة، عبر الاستخدامات والتنويعات المتتالية لهما.
يكتب المصمّم البصري (أيمن نحلة) في البيان الخاص بالعرض: (ما تلبث أن تبتكر صورةً في المجال البصري، حتى تصبح عرضةً لأكثر من استخدام، يتمّ تحميلها وتنزيلها عدداً من المرات، وربما يُعاد التلاعب بمحتوياتها، لتدخل في حالة نسخٍ وتحوّلٍ مستمرَّين.
هكذا تدخل الصورة في مرحلة تبدّلٍ لا نهائيّة المسارات، فتتقلّص الصورة، تنتقل من وسيطٍ إلى آخر، تضغط، تتشقّق، يُعاد إنتاجها، يُعاد مزجها، يُعاد نسخها ولصقها عبر العديد من وسائل التواصل الديجتاليّة وقنوات التوزيع)
على هذا الأساس صمّم الفنان (أيمن نحلة) عرضه البصري، حيث يتابع المتلقّي على الشاشة ولادة الصورة الأصليّة، ومن ثمّ التحويرات التي تمرّ بها، التحوّلات المحتمل أن تخضع لها، النسخ محتملة التناسل من الصورة نفسها، والمسارات البصريّة التي تقتحم الصورة للدخول في قنواتها المتعدّدة.
على المستوى السمعي، ألّف الموسيقي (زياد مكرزل) موسيقاه الإلكترونيّة على أساس المفهوم ذاته، فهو يقّدم الجملة اللحنيّة للمستمع بدايةً ليتعرّفها، ثم يبيّن المسارات التي يمكن للحن الأصلي أن ينتهجه، الأداء يلعب دوراً في كيفيّة تلقّي المستمع للحن الأصلي، يغيّر من شدّة الصوت أو خفوته، يتلاعب بإيقاعه سرعةً أو بُطئاً، يمنحه أحياناً انطباعاً بالثقل أو الخفة، يشوّه علاماته الموسيقيّة لفترة، ثم يُعيد إنتاجه كما في حالته الأصليّة الأولى، يخفيه، يمزجه بغيره من الجمل اللحنيّة ليُعيد إظهاره وحيداً ومركزيّاً كما في حالته الأولى. يقدّم المؤلّف والمؤدّي (زياد مكرزل) هذه المسارات الصوتيّة للحنٍ أو لمجموعة علاماتٍ موسيقيّة على كامل مدّة العرض.
يأتي دور آلة الدرامز (أكرم الحاج) لضبط إيقاع العرض الحي، فعلى أساس إيقاع آلة الدرامز يقيس المصمّم البصري إيقاعَ تلاحق الصور المعروضة على الشاشة، التي بدورها توحي للمؤدّي الموسيقي بإيقاع وسرعة الأداء الإلكتروني. هي بنيةٌ ثلاثيّةٌ تبدأ من أداء الدرامز، لتقود إيقاع الإسقاط البصري، الذي بدوره يؤدّي دور قناة التواصل مع الموسيقى الإلكترونيّة.
غالباً، ما يُقدَّم الأداء الموسيقي مع الإسقاط البصري في الحفلات الموسيقيّة الراقصة، في عروض مهرجانات الموسيقى الإلكترونيّة، لكن شرط التلقّي الذي اقترحه عرض (رحلة تحوّلات الصوت والصورة) مختلف، حيث يجلس الجمهور على مقاعد في حالة من التلقّي تشابه ما هو عليه الحال في حفلات الموسيقى الكلاسيكيّة، أو في العروض المسرحيّة.
"الحبّ غير مرئي، الحرب غير مرئية": الحبّ هو غير مرئي لكنه محسوس وملموس، وكذلك لا يمكن اختصار الحرب في صورةٍ أو لقطةٍ أو مشهدٍ أو حكاية: من معرض أيمن نحلة عن علاقة الواقع بالامرئي
أيهما الأهم القطعة الموسيقية الأصلية أم النسخ المسجلة عنها؟ لا أحد في عالمنا المعاصر تمكن من الإنصات والتعرف على سمفونيات بيتهوفن كما ألّفها، ووزعها، وقاد الأوركسترا لأدائها، إلا أننا نعرف فقط نسخ معدلة ومسجلة عنها تمتلك لا نهائية في التنويعات.
الشاشة تخاطب الجمهور: (أيها الجمهور، أتمنى عليكم أن تخرجوا هواتفكم النقالة، أن تصوروا صورةً من هذا الحفل، أن تستعملوها، أن ترسلوها، أن تعدلوا عليها، أن تحوروا في تشكيلها، ولذلك لكي تكتشفوا كيف تخضع صورة لرحلة من التحولات، الاستعمالات، والتحويرات)
هنا تغيب غاية تحريك الأجساد في الموسيقى الإلكترونيّة، وتغيب غاية إمتاع الراقصين بالتصميم البصري، ما يسمح للفنّانين بتقديم أداءٍ سمعي – بصري يحمل عناصر سرديّة، أي لم تعد غاية التصميم في هذا العرض الانتقال من ذروةٍ موسيقيّةٍ أو ذروةٍ بصريّةٍ إلى أخرى، بل سمح للمؤلّفين - المؤديين باقتراح أسلوبٍ أكثر سرديّة، كأن المتلقّي يتابع حكاية لحنٍ أو يتابع حكاية صورة.
بالإضافة إلى الصور، أدخل المصمّمُ البصري اللغةَ في الفيديو المعروض على الشاشة، يقول (أيمن نحلة) : "أردت إيجاد حالةٍ تفاعليّةٍ مع الجمهور"، لذلك يقرأ المُشاهد على الشاشة مجموعةً من العبارات والجمل التي تخاطبه مباشرةً : "أيها الجمهور، أتمنّى عليكم أن تخرجوا هواتفكم النقّالة، أن تصوّروا صورةً من هذا الحفل، أن تستعملوها، أن ترسلوها، أن تعدّلوا عليها، أن تحوّروا في تشكيلها، وذلك كي تكتشفوا كيف تخضع صورة لرحلة من التحوّلات، الاستعمالات، والتحويرات"، كان هذا هدف الجزء التفاعلي من العرض البصري الذي أراده المصمّم، وذلك بغاية أن يعايش الجمهورُ بنفسه، الفكرةَ الأساسيّة التي انطلق منها تصميم هذا العرض.
أيهما الأهم الصورة الأصلية أم النسخ المكرورة عنها؟ القليل منا رأى اللوحة الأصلية للموناليزا أو للوحات (فان كوخ)، لكن العديد من محبي الفن التشكيلي حول العالم، مبهورون بجمال هذه اللوحات التي لم نرها إلا عبر الكروت المطبوعة والصورة المنسوخة عنها.
استعمل المصمّمُ البصري اللغةَ أيضاً، لتمرير عددٍ من الأفكار أو المقولات ليدعم دور الفنّ في ذهن الجمهور: "الفنُّ حاجة كالغذاء"، وكذلك ليمرّر عدداً من الأفكار والمقولات عن العلاقة بين المجال البصري والمجال الواقعي، من مثل: "الحبّ غير مرئي، الحرب غير مرئية".
في كتابه (اللامرئي، 2012) اهتمّ الفيلسوف الفرنسي (كليمون روسي 1939 – 2018)، بالعلاقة ذاتها بين الفكر والواقع من جهة وبين اللامرئي من جهةٍ أخرى. بيّن فيه أن اللامرئي يلعب دوراً في أفكارنا ومعتقداتنا الإنسانيّة، فاللامرئي يدخل في الإدراك وبالتالي يؤدّي دوراً مؤثّراً في الحياة وفي الواقع، وكما يقترح هنا أيمن، فالحبّ مثلاً هو غير مرئي لكنه محسوس وملموس، وكذلك لا يمكن اختصار الحرب في صورةٍ أو لقطةٍ أو مشهدٍ أو حكاية، فهي قريبة من وجود اللامرئي، كمفهومٍ أو حالة عيش يُدركها العقل والنفس دون أن يتمكّنا من اختصارها في صورةٍ أو حضورٍ مجسّد. هنا تتقابل فكرة (كليمون روسي) في كتابه مع عبارتي أيمن: "الحبّ غير مرئي، والحرب غير مرئية".
الموسيقى أبرز الظواهر غير المرئيّة التي ينطبق عليها ما حاول الفيلسوف (كليمون روسي) التنظير له، فالموسيقى غير مرئيّة، لكن وكونها عبارة عن ذبذبات فيزيائيّة في المكان فهي تؤثّر في الواقع الفيزيائي، بإيقاع الأجساد مثلاً، وكذلك كونها تحمل شحنةً عاطفيّةً ووجدانيّة فهي تؤثّر بالمزاج العام وبالأحاسيس التي يعيشها المستمع، ورغم أنها تندرج في إطار "اللامرئي" كمفهومٍ فلسفي، إلا أن العديد من الدراسات والكتب تختصّ بأثر الموسيقى على الدماغ، مثل كتاب (نزعة إلى الموسيقى: حكايات الموسيقى والدماغ، 2007، أوليفر ساكس).
في البيان الخاص بالعرض يركّز (أيمن نحلة) عن العلاقة بين الصورة الأصليّة والنسخ المعدّلة عنها، كذلك يمكن تطبيق التساؤل نفسه عن اللحن، ما علاقة التنويعات الكثيرة باللحن الأصلي؟ ما علاقة الصورة الأصليّة بالنسخ المعدّلة عنها؟ في كتابه (المصطنع والاصطناع، 1981) يعالج الفيلسوف (جان بودريار) هذه الموضوعة، فهو يحاول أن يثبت أن الرموز المنسوخة عن الواقع أو التي من المفترض أن تقود أو تُحيل إلى الواقع، أصبحت هي الواقع نفسه، أصبحت الرموز الدالّة على الواقع هي المعيار للواقع، ويعطي الفيلسوف مثالاً عن دور الخريطة، كيف أننا نغيّر الموقع الجغرافي ورؤيتنا له ليتطابق مع الخريطة المرسومة عنه.
في فيلمه (نسخة طبق الأصل، 2010) يقدّم المخرج الإيراني (عباس كياروستامي) حكايةً مثاليّةً عن علاقة لوحةٍ أصليّةٍ بالنسخة طبق الأصل عنها. فالشخصيتان الرئيسيّتان في الفيلم يؤديهما (جوليت بينوش ووليم شيميل) خبيرا فنّ الأيقونة، كلاهما ينبهر بالجمال الذي تتمتع به أيقونةٌ نادرةٌ موجودة في كنيسة في إحدى جبال توسكان الإيطاليّة، ليكتشفا فيما بعد أنها نسخة طبق الأصل عن الأيقونة الأصليّة، ويعمدا طيلة الفيلم للتنظير على أن بعض النسخ المطابقة أكثر جمالاً وانتشاراً من اللوحة الأصليّة.
القليل منا رأى اللوحة الأصليّة للموناليزا أو لوحات (فان كوخ)، لكن العديد من محبّي الفن التشكيلي حول العالم، مبهورون بجمال هذه اللوحات التي لم يروها إلا عبر البطاقات المطبوعة والصورة المنسوخة عنها، ينطبق الأمر أيضاً على الموسيقى، فلا أحد مثلاً في عالمنا المعاصر تمكّن من الإنصات والتعرّف على سمفونيات بيتهوفن كما ألّفها ووزّعها وقاد الأوركسترا لأدائها، إلا أننا نعرف فقط نسخاً معدّلةً ومسجّلةً عنها، تمتلك لا نهائيّة في التنويعات والقراءات والتأويلات، أياًّ منها ليست العمل الأصلي الذي ألّفه ووزعه وقاده، المؤلّف الموسيقي الأصلي.
وهنا يبقى التساؤل ما علاقة نسخة طبق الأصل بالعمل الفنّي الأصلي نفسه، سواء في الفنّ السمعي - الموسيقى، أو الفنّ البصري - الصورة؟
في الثمانينيات نشطت في الولايات المتحدة حركةٌ فنيّة عُرفت باسم (مصطنعو نيويورك) كان أبرز أعضائها (باربارا كروغر، آلان ماك كالوم، ريشارد برنس) تستند هذه الحركة الفنية إلى فكرةٍ مفادها أن الواقع مشبع برموز وتصوّرات تحجب الواقع بدل أن تكشفه، وبالتالي يريدون لفنّهم أن يكون أداة نقدٍ للواقع وليس حاملاً للأوهام. ينطبق هذا التوصيف على ما أراده الفنّانون الثلاثة في العرض السمعي – البصري الحالي، هنا الفنّ أداة لإعادة التفكير بالمنتج الفني نفسه.
بالإضافة إلى البعد الجمالي، أي المتعة السمعيّة موسيقيّاً، والمتعة التشكيليّة بصريّاً، فإن الجهد المبذول من قبل الفنّانين الثلاثة في عرض (رحلة تحوّلات الصوت والصورة) كي يقدّموا تأليفهم السمعي – البصري وأداءهم على أساس مفهومٍ جامعٍ، أي رحلة التحوّلات والتحويرات، منح المتلقي تجربةً إدراكيّةً أيضاً.
يدفع هذا العرضُ المتلقّي للتساؤل حول بنية اللحن الموسيقي واحتمالات تحوّلاته وتبدّلاته ومساراته الوجدانيّة والجماليّة، وكذلك يدفع للتساؤل حول مصير صورةٍ في رحلة استعمالها من قبل الإنسان، وتوظيفها في عدّة مواضع ومهمّات، ليس أوّلها الاستمتاع البصري، وليس آخرها اعتبارها وسيلة تعبيرٍ وتواصلٍ بين البشر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 9 ساعاتمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
Ahmed Adel -
منذ 3 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ أسبوعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعاخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.