شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
بروفات غربة

بروفات غربة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأحد 24 يوليو 201606:07 م

منتصف الثمانينيات كادت غربتي الأولى إلى سويسرا أن تتحقق لولا أن أمي بكت في اللحظة الأخيرة من مراسم وداعي وقالت بحزم دامع: لن يذهب إلى سويسرا. فهجم والدي على حقيبتي وحملها بعيداً عن كتفي المسافر، وعدنا يا شباب إلى حلب قادمين من بلودان مروراً بالشام حيث كان من المفترض أن تكون كراج انطلاق إلى غربتي الأولى.

في حلب لازمت البيت لمدة شهر تهرباً من الشامتين من أصدقائي الذين صرعتهم بفكرة سفري وهي عبارة عن رحلة لتعلم اللغة الفرنسية في لوزان بسويسرا لمدة شهرين... من الأفراح والليالي الملاح كما كانت تقول لي أحلامي، ولمَ لا فالهدف هو تعلم اللغة الفرنسية والعودة إلى حلب طالباً مشهوداً له في قسم اللغة الفرنسية بكلية الآداب. الاختلاط بالمجتمع هو الذي يعلمك لغته، لذا كنت سأصاحب الفتيات السويسريات الناطقات باللغة الفرنسية فقط، ولن أصاحب الناطقات بالإيطالية والألمانية، هكذا وعدت أبي الذي كان ينبهني ويحذرني من مغبة تبذيري بالوقت وبالتالي بأمواله أو نفقات الرحلة التاريخية. تابعتُ مؤكداً له إصراري على تعلم الفرنسية وبالتالي فلن أتفرج على الأفلام الخلاعية المحتوية على مشاهد فاحشة مشينة يندى لها جبين البشرية سوى باللغة الفرنسية، وضحكنا معاً على حوارنا الذكوري الضاحك.

لكن أبي أعجبته الأفكار، ومن ثم تحول إعجابه إلى شك وارتياب، فبدأت بالتالي التحقيقات بصحبة أولاد عمي الذين كانت تجاربهم في تعلم اللغة الإنكليزية في لندن قد أضحت محوراً لأحاديث العائلة المترامية الأطفال في دمشق وحلب والدرباسية وعامودا و"ديريكا جياي مازي" مسقط رأس الجد الذي شاء أن يدفن في أقرب مكان له فكان أن تم له ذلك في الدرباسية مسقط رأسي. تجربة أبناء العم كانت مثار إعجاب المراهقين في هذه العائلة بسبب البطولات الجنسية التي حققوها هناك، بل إن أحدهم لاحقته سيدة انكليزية من طبقة النبلاء إلى دمشق بغرض الزواج منه، كما يقال، لكنه رفض بشمم وإباء، وقال لها بالعربية لأن الحمار لم يتعلم كلمة إنكليزية طيلة عام: لن أذهب معكِ، فأنا سأتزوج من بنت الجيران.

أصيل يا ابن العم أصيل، لكن هيهات... فابن العم يعطي لأبيك المعلومات عن رحلته التي رفض أن يعترف بها لأبيه إلا تحت التعذيب، في سبيل عرقلة رحلتك التاريخية الدراسية البريئة. ولكنني تظاهرت بالبلاهة وأنا أعدد أسماء نوادي كرة القدم السويسرية، وأحدد أمكنة التزلج المثيرة، وأهم عروض السينما التي ستكون هذا الصيف، وبالطبع مع أسماء المخرجين والممثلين، إلى عروض المسرح والموسيقا، فافتر فم أبي عن ابتسامة منتصرة وكأنه كان في صفي وليس في صف الأعداء، بينما ارتسم الهلع على وجه أمي خوفاً من أن تساورني فكرة التزلج على الثلج، فارتد أبي عن حماسه وفخره بعلمي ومعرفتي، وتجهم وجهه الباسم منذ لحظة وهو يتخيلني في أحضان الفتيات الأوربيات بغضب وحسد.

ـ لن يذهب. قالت أمي

ـ سيذهب ويعود متعلماً وينجح. قال عمي.

ـ لن يذهب.

ـ سيذهب كي يحقق رغبة أبيه بالحصول على الشهادة الجامعية حتى لو كانت شقفة أدب فرنسي.

ـ لن يذهب

ـ سيذهب ويرمي جنونه هناك ويعود عاقلاً.

ـ لن يذهب.

ـ سيذهب.

ـ سيذهب كي يعود متأبطاً أجنبية تقول لنا: هالو!

- لا لن يذهب هذا الطفل، فليرسب في الأدب الفرنسي عشرة أعوام تحت أنظاري أفضل من غيابه لشهرين في أوروبا، فليغِب إذا أراد هنا، فليغِب في حلب، فليغِب في الشام، فليغِبْ في )الدرباسية قرب الحدود، لكن أن يجتاز الحدود، فهذا محال. (وتعال أقنع أمك بنت الحلال.

ـ سيذهب ويعود كما كنت تعرفينه وأفضل، ستكونين فخورة به أكثر، سيكون على مستوى المسؤولية فلا يتحرك من على مقعد الدرس يميناً أو شمالاً، كما أنه لعلمك يا أم لقمان أن العائلة التي سيسكن في غرفة من غرف بيتها هي عبارة عن امرأة...

ـ امرأة! وليييي...

ـ امرأة عجوز ختيارة مهرهرة.

وتجهمتُ كلي مصدوماً، وابتسمت أمي على استحياء. واتفق العلماء واتخذوا القرار، ومضينا من حلب إلى الشام، وبعد طج الفيزا الأولى على الباسبور الأول بدأت رحلة البحث عن مواعيد السفر، بحث عن أرض جديدة ستطؤها أقدامي التي جابت الآفاق، من الجزيرة حتى حوران، وانتقلنا للاستراحة في بيت عمي في بلودان لبضعة أيام قبل الطيران، وبينما كنت أتلقى التوصيات في كيفية التصرف هناك حتى نطق ابن عمي الفاشل الشهير في العائلة وقال: لن يعود.

فقالت أمي: إذن لن يذهب. لن يذهب لن يذهب لن يذهب.

وهكذا كانت السهرة التاريخية في مطعم عقل مسجلين الحساب على عمي أنا وابن عمي الفاشل الذي لم ينجح في حياته بشيء سوى بإفشاله لمشروعي التاريخي العتيد بالسفر، وشربنا العرق معاً، وأكلنا الكباب المغمس بدموعي الريانة بالأحلام والأماني والحب والغرام أمام الترام في لوزان. وقلت في نفسي حكمة اليوم: لا تتبادل المزاح مع أبيك.

ولم أذهب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image