شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
التربية القومية... للعائلات فقط

التربية القومية... للعائلات فقط

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 26 فبراير 201505:46 م

كان أستاذ التربية القومية في المعهد العالي للفنون المسرحية كهلاً بعثياً لطيفاً مبتسماً على الدوام عاشقاً لسماع النكات، وكان عليه أن يدرسّنا مادة التربية القومية التي تتضمن مبادئ حزب البعث الافتراضية كما نعرف جميعاً.

في هذه الحصة وبعض الحصص كانوا يجمعوننا نحن طلاب قسم التمثيل مع طلاب قسم النقد المسرحي، وكان الجميع يستثقلون هذه الحصة، حتى البعثيين والفسافيس من المخبرين، لذلك كنتُ أبدأ بهوايتي المعهودة وهي استغلال نقطة ضعف الأستاذ ورمي النكات الجديدة التي نزلت لتوها إلى الساحة، وكانت الحصة تنتهي دون أن يفتح الأستاذ الكتاب، ودون أن يستمع الطلاب إلى مبادئ البعث وفكر القائد الخالد الذي لم يكن خالداً وقتها، كان مناضلاً فقط، فإذا صدف وسألت طالباً من صفنا في تلك الأعوام عن مبادئ البعث وفكر القائد الخالد الذي لم يكن وقتها خالداً فلا شك بأنه سيعتصر دماغه وذاكرته ليحصل في النتيجة على بضعة نكات هي حصيلة ما ستجود به ذاكرته.

وعند دخول أي طالب متأخراً إلى الدرس كان الأستاذ يطالبه بإلقاء نكتة، فإذا أضحكته يسمح بدخوله، وكان الجميع يهتم بتسجيل حضوره كي لا يُحرَم من امتحان هذه المادة، وعادة ما كنتُ آتي متأخراً جداً، ذلك أن الأستاذ لم يكن ليستطيع منعي من الدخول، لأنه كان متأكداً على الدوام من أنني سآتي بنكتة جديدة، أصلاً كنتُ بالنسبة إليه نبعاً لا ينضب من النكات والطرائف، لكنه كان ينبهني أن لا أتأخر في الدرس القادم، ويلومني ويعاتبني عتاب المحب ولوم الصديق.

لم يكن قادراً على إصدار أية عقوبة بحقي، وعند الباب كان يبتسم لي وهو يهز برأسه ويطلب مني عدداً من النكات يتناسب مع المدة التي تأخرت فيها، ينظر إلى ساعته ويحدد الرقم المطلوب، خمس نكات يا لقمان، نكتة عن كل خمس دقائق تأخير، لكن الطلاب يطالبونني بالتفاوض، يفاوضونه أيضاً كي يضيع الوقت أكثر، فيقبل بالمفاوضات على أساس نوعية النكات ومدى قوتها، والنكات السيكسية ممنوعة بسبب وجود الطالبات الزميلات كما تعرفون، كما أن النكات السياسية ممنوعة بسبب تواجد الزملاء العواينية المفسفسين الفسافيس المخبرين.

اسمعْ أستاذ:"واحد أحول طلَّق مرت أخوه"، ويهستر الأستاذ بالضحك، ويهستر الطلاب، كانت نكتة جديدة وقتها، "واحد حبّاب وواحد حبّ شبّاك"، ويضحك الأستاذ من الانزياح اللغوي، وأكمل خسكاري (عقوبتي) أو المطلوب مني وأدخل.

يفتح الأستاذ الكتاب ويتلو المنطلقات النظرية لحزب البعث فأتدخل مقاطعاً: "خمسة حماصنة سمُّوا أنفسهم بالفرسان الثلاثة"، ويقهقه الأستاذ، وينسى المنطلقات النظرية للحزب العظيم، ويقهقه الطلاب، تنهال الدموع من عينيه، يخلع نظارته ويمسح عنها الدموع التي طفرت، ثم يمسح ما تبقى على عينيه ويتابع، يقول الرفيق القائد المناضل حاف... وأقاطعه: "في واحد حمصي وواحد عادي"، ويصفن الأستاذ ثم يقهقه، ويقهقه الطلاب، وأكمل: "إذا لم تكن حمصياً أكلتك الذئاب"، ويقهقه الطلاب، ويقهقه الأستاذ، وينسى حاف... ينسى ما تسنى له أن يلفظ من حروف اسم القائد الذي لم يكن خالداً وقتها لأنه لم يكن قد مات بعد!

عند الامتحان يكرم المرء أو يهان يا أبو شريك، وقبله بثلاثة أيام قال لي أستاذ القومية إنني لن أستطيع الدخول إلى الامتحان إذا لم أسجل له دفتراً كاملاً من النكات، لأنه يريد أن يقرأها للمدام، وكالعادة فقد أهملتُ الموضوع إلى أن جاءت ليلة الامتحان. قلتُ لوليد زميلي أن يقوم بمهام التدوين لأن خطه جميل، وهو يكنى بأبي جميل، خطك جميل يا أبو جميل، وسوف تنجح معي في المادة إذا قمت بالتدوين، واشترينا دفتراً جميلاً أزرق سماوي فاتح وأبيض، وعليه صورة لحافظ الأسد مبتسماً كي يشعر أستاذ القومية بالسرور منذ البداية، وبدأتُ بالترغلة، وبدأ أبو جميل بالتسجيل.

حلو، رهيب، هات اللي بعدها أبو حسين، يقول أبو جميل وهو يدون، وأخوكم أبو حسين يستذكر النكات ويملي على حبيبنا أبو جميل، وسهرنا حتى الفجر، ولم يسكت أبو حسين الصباح عن الكلام المباح، سجل عندك أبو جميل، قسم خاص للعائلات فقط، وطوى أبو جميل الورقة في منتصف دفتر حافظ الأسد وكتب “للعائلات فقط”.

وبدأت بإملاء النكات السيكسية عليه، سيسر الأستاذ كثيراً بهذا القسم، إنه قسم خاص به وبالمدام أم الأولاد البعثيين عن بكرة أبيهم، وفي غمرة تسجيل النكات السيكسية مرَّرنا بضع نكات سياسية، سيسر بها الأستاذ... لكنها تنال من حافظ وشقيقه رافع! قال أبو جميل، رفعت يا فهمان مو رافع، قلت له! طيب يا أبو حسين، همهم أبو جميل، وأكملنا المشوار، دفتر مليء بالنكات، البريئة والمبتذلة، السخيفة والعميقة، الغبية والذكية، لكنها أمَّنت لنا الانتصار على مادة التربية القومية البعثية، ونيل أقصى ما يمكن من العلامات.

لم يكن حزب البعث إلا هكذا في وجدان الشعب السوري كله، كان عبارة عن دفتر من النكات، وسلمنا الدفتر للأستاذ في الصباح، ودخلنا مرهقين لم ننم الليل كله، ووضعنا أمامنا ورقة الامتحان، ثم غطينا في نوم عميق، واستيقظنا على صوت الأستاذ وهو يلم أوراقنا الخاوية، يالله قوموا ناموا بالبيت، يا ويلكن إذا ما عجبوها نكت القسم الخاص بالعائلات للمدام، وانتهى المنام، ونظرنا في وجه الأستاذ البعثي اللطيف، ثم انصرفنا خارج القاعة في المادة البليدة ناجحين!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image