لستُ مصرياً ولا جزائرياً ولا إماراتياً، لكي أعرف ولو القليل عن عالم الميترو قبل سفري إلى فرنسا. مشروع الميترو الدمشقي، الذي كنا نسمع به منذ وقت طويل، ونقرأ عن "إمكانية" إتمامه في "السنوات القليلة المقبلة"، كان وما يزال واحداُ من المشاريع التي يصفها السوريون بـ"الأثرية"، لقِدم وجودها على الورق وندرة أو استحالة رؤيتها في الواقع. فقد كان جدي، في شبابه، شاهداً على طرح فكرة إنشاء أنفاق ميترو في العاصمة. وحينما توفي، كان المشروع، الذي حلم برؤيته على أرض الواقع، ما يزال قيد التفكير. ورث أبي الحلم، ولأنه يعرف أن المشروع سيطول، وأن الحلم سيبقى حلماً، فقد أورثني إياه، وأنا، بدوري، سأورثه إلى بقية السلالة، وهكذا...
على أي حال، حتى لو افترضت أنني تعرفت إلى الميترو قبل وصولي إلى فرنسا، فإن علاقة جديدة، بالتأكيد، كنت في طريقي إلى اكتشافها مع شبكة الميترو الفرنسية، التي تشكل، بمفردها، مجتمعاً خاصاً بها. هو مجتمع الدقائق؛ المجتمع الذي تنتسب إليه لدقائق، وما تلبث أن تخرج منه بوصولك إلى المكان الذي تريده وصعودك من تحت الأرض إلى الشارع.
اكتشفت الميترو منذ يومي الأول في باريس. عمّة صديقتي الفرنسية، التي استقبلتني في بيتها في الأيام الأولى، أحبت أن تعرفني إلى مدينة الأنوار سريعاً. سألتني: "إيفل؟"، فقلت: "لا، فلنذهب إلى أي مكان آخر غير إيفل واللوفر اللذين قرأت عنهما وشاهدتهما في صور وفيديوهات وأفلام أكثر مما قرأت وشاهدت عن الأماكن الأثرية والسياحية في بلدي". وصلنا إلى المحطة القريبة من بيتها. قبل دخولنا عبر الأبواب الإلكترونية التي لا تفتح إلا بوضع البطاقات داخلها (سأعرف لاحقاً طريقتين، يستخدمهما الفقراء والمراهقون والمشردون، لاجتياز هذه الأبواب بدون بطاقة)، سألتني السيدة فلورنس: "هل تريد أن تتعلم كيف تشتري بطاقة؟"، قلت: "لم لا؟"، وبدأنا درس الميترو الأول. اخترت، بمساعدة السيدة، البطاقة الخاصة بالتنقل من الضواحي إلى باريس، والتي تصلح أيضاً للتنقل مرة واحدة (إذ تنتهي صلاحيتها بخروجنا من الميترو) داخل العاصمة.
قضينا ساعات في المدينة الكوسموبوليتية، التي يبدو الفرنسيون أقليّة فيها، أو أنهم، على الأقل، ليسوا أغلبية محلية ساحقة، لاسيما في الأماكن السياحية والمزدحمة. في طريق العودة، لن أعطي بالاً لقواعد الميترو الكثيرة، التي لا بد من إتقانها للوصول إلى البيت، لأن السيدة فلورنس تدبرت الموضوع. وعلى الرغم من أنها كانت تشرح لي، خطوة خطوة، ماذا علي فعله، وأي بطاقة يجب أن أشتريها، وأي محطة وخط ميترو يجب أن أستخدم في ذهابي وإيابي، إلا أنني سأضيع في اليوم التالي، ساعتين تحت الأرض، عندما سأذهب وحيداً لزيارة صديق. لقد اخترت خط الميترو ذاته الذي قالت لي إنه يوصلني إلى بيت صديقي، إلا أنني صعدت في الرحلة المعاكسة، القادمة من بيت صديقي، وليست الذاهبة إليه.
لكن هذه التجربة، والأخطاء المشابهة التي سأرتكبها في أيامي الباريسية الأولى، ستسهل الأمر عليّ لاحقاً، إذ سيغدو الميترو "مثل شرب الماء". حتى الخريطة، خريطة خطوط الميترو (تبدو سياحية، استشراقية، للوهلة الأولى، لكنها ليست كذلك) التي يستخدمها الفرنسيون قبل غيرهم، لصعوبة حفظ كل خطوط شبكة الميترو المعقدة والواسعة؛ حتى هذه الخريطة، سأبدأ بالتخلي عنها بعد أسابيع قليلة، ولن أستخدمها إلا حين أضطر لاستخدام خط لم أستخدمه من قبل.
أصدقائي الفرنسيون الذين تركتهم في لبنان، طلبوا مني أن أكتب لهم مشاهداتي وآرائي حول بلدهم. من بين ما كتبته في إحدى رسائلي، هو وصفي لـ"الناس الذين يهرولون للحاق بالميترو، مع أن الميترو التالي لن يتأخر أكثر من 5 دقائق". ردت عليّ صديقتي، مارين بالقول إنني الآن "مكتشف"، وليس لدي الكثير من المتطلبات الحياتية التي تضطرني للهرولة مثل كل الناس. وكتبت: "بعد عام، عندما سيصبح لديك عمل أو جامعة أو أية التزامات يومية، ستصبح مثلهم". لكنه لم يكن عاماً. فبعد شهر تقريباً، انتقلت من حالة المستكشف، السائح، إلى الحالة التي تحدثت عنها مارين. صرت أكثر اهتماماً باللحاق بأول ميترو، ولم أعد أترفع عن الصعود في متيرو مزدحم لأنتظر الميترو اللاحق كما كنت أفعل في الأيام الأولى بعد وصولي إلى باريس.
أشياء كثيرة لم أعد أفعلها في الميترو حقيقة. أهمها، عدم التماهي مع العازفين الجوالين، الذين يقتحمون إحدى كرفانات الميترو فجأة، ويبدأون باللعب على آلاتهم، وبعد أن ينتهوا، يمدون إليك جزداناً، لتضع فيه بعض المال إن أردت. أحاول أن أفعل ذلك، ألا أتماهى مع العازفين، لاسيما الذين يعزفون بشكل جيد، خصوصاً حينما أكون مفلساً. إذ أن العازف الذي تبتسم له، أو تهز برأسك وهو يلعب على آلاته، كدلالة على الإعجاب بموسيقاه، سيختارك أنت، تحديداً، كأحد الأشخاص الذين يفترض بهم أن يدفعوا، وسيلح عليك لتدفع. لهذا، صرت متواطئاً، ككثير من الفرنسيين: أصغي إلى الموسيقى بصمت، وأستمتع بها إذا كانت جيدة، من دون أن أبدي ذلك!
بالفعل، يشكل الميترو مجتمعاً خاصاً هنا. هو عالم يمتص من الشارع مئات الآلاف من الناس، ويعود ليضخها مرة أخرى. عالم يبدأ مزدحماً وباعثاً على التفاؤل صباحاً، ويغدو مرعباً وقاحلاً مساء. هنا فتيات يقفن أمام بلور الميترو يرتبن أنفسهن ويعدلن المكياج قبل الخروج إلى الشارع، إلى الحياة. وهناك متسولون يتقنون خطب "شحاذتهم" جيداً لفرط ما أعادوها. ثمة متشردون ينامون بين المحطات، وباعة جوالون. ثمة عشاق يقبلون بعضم بعضاً، وناس كثيرون يطرقون برؤوسهم في الكتب أو الصحف التي يحملونها من دون أن يعطوا بالاً لما يجري حولهم. دقائق، ويخرج الجميع إلى الضوء، حيث الحياة أقل تنظيماً و أكثر تنوعاً وأقل... هرولة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع