بعد وصول دونالد ترامب المفاجئ إلى البيت الأبيض، أصبح الحديث عن فوز اليمين المتطرّف في الانتخابات الرئاسيّة الفرنسيّة، وتحديداً "الجبهة الوطنية" بقيادة مارين لوبان، أشبه بموضة. لدى لوبان نقاط كثيرة تتشاركها مع ترامب، لا سيما في التفلّت من "إيتيكيت" الحديث السياسي، ومقاربة المواضيع الحسّاسة بكل فجاجة وعنصريّة، أبرزها تلك المتعلقة باللاجئين والمهاجرين. ومع فرح لوبان بنتيجة الانتخابات الأمريكيّة، ومسارعتها للتهنئة و"أخذ المعنويات"، بدأت التساؤلات بشأن مفاعيل وصول اليمين المتطرّف إلى رأس الجمهورية الفرنسية، التي تباهت طويلاً بمبادئ "الحرية والأخوة والمساواة".
صحيح أن ترشح لوبان يأتي عقب تقهقر اليسار والفشل الواضح لأساليبه في مقاربة أزمات فرنسا، الداخلية والخارجية. لكن المنافسة الفرنسيّة لها خصوصيتها كذلك. ثمة سباق من نوع آخر يجري باتجاه الإليزيه، وتُحسم نتائجه في أبريل المقبل. تنافس زعيمة اليمين المتطرّف اليوم رئيس بلدية مدينة "بوردو" ورئيس الوزراء السابق في عهد جاك شيراك، آلان جوبيه، ورئيس الوزراء الأسبق في عهد نيكولا ساركوزي، فرانسوا فيون.
خرج ساركوزي، كما كان متوقعاً، من الانتخابات التمهيدية، وربما من الحياة السياسية كلياً، بينما يتخبّط اليسار في وضع صعب وهشّ. وبقي تنافس اليمين محصوراً بين جوبيه وفيون. وفيما كان النقاش بداية يدور حول السباق بين جوبيه ولوبان، تصدّر فيون خلال الأسبوع الحالي الصورة بشكل صادم. لقد حصد الأخير 45% من عدد الناخبين الذين وصلوا إلى نحو أربعة ملايين ناخب في انتخابات الدورة الأولى لليمين والوسط الفرنسيين. كما حاز دعم "رئيسه" الأسبق ساركوزي.
فيون الرجل الجيّد؟
في الداخل الفرنسي، ثمة نقاط كثيرة تصبّ في صالح فيون، فهو يمثل "الرجل الجيّد". لقد قدّم في حياته الشخصية الصورة المثالية للعائلة الفرنسية، بينما رفض الزواج المثلي وإعانة الأمهات العازبات. وفي الجانب المهني، لم تطله يوماً تهم الفساد والتورط في صفقات مشبوهة. انتهى المرشحون السبعة للانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى التي تناظروا خلالها في العموميات، وبدأ التحضير للجولة الثانية التي تسلط الضوء على البرامج الانتخابيّة لكل واحد منهم. بالنسبة لجوبيه ثمة نقاط يمكن أن يستغلها ضد فيون، الذي عايش فترة ساركوزي "الفاشلة"، وخاصة المتعلقة تحديدآً بمشروعه الاقتصادي "المغالي في الليبرالية" أو بسياساته الخارجيّة المتعلقة بشكل أساسي بالأزمة السورية. أياً يكن، فأمام رئيس بلدية بوردو الكثير من العمل الشاق، لا سيما وأن فيون يتقدم بخطوات واسعة. داخلياً، يطمح فيون لإلغاء نصف مليون وظيفة في القطاع العام وتخفيف المساعدات الاجتماعية للفرنسيين. يعتبر فيون مارغريت تاتشر "بطلته المفضلة"، ومنها استوحى فكرة الاستغناء عن نصف مليون وظيفة حكومية خلال 5 سنوات. خارجياً، تتوجه الأنظار في الغرب، وأكثر منها في الشرق الأوسط، إلى الدور الذي تلعبه فرنسا بشكل مؤثر في قضايا المنطقة. أكثر ما يلفت المتابع العربي في تصريحات فيون تلك المتعلقة ببرنامجه لمكافحة الإرهاب في فرنسا، عبر تجريد الفرنسيين الذين يشاركون في الجهاد، والحدّ من استقبال اللاجئين في فرنسا عبر تحديد نسبة سنوية للمسموح لهم بالدخول، والحدّ من منح الجنسية تلقائياً للمولودين على الأراضي الفرنسية. لا يريد فيون من فرنسا أن تكون سلبيّة أو تلعب في المواقع الخاطئة، بل يهدف لأن تضطلع بدور "قيادي في مجال مكافحة الإرهاب".كيف ذلك؟
في إطار الحديث عن الإسلام الراديكالي، يرى فيون أنه "لا توجد مشكلة دينية في فرنسا، نعم هناك مشاكل تتعلق بالإسلام... لكن الحل لا يكمن في استهداف المسلمين الملتزمين بالقانون، بل يستهدف المتعصبين". وقد زادت تصريحات مماثلة من شعبيّته بين الفرنسيين. يرى فيون في الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وحتى في الجيش السوري وفي مكان ما حزب الله اللبناني، حلفاء ومساعدين في مكافحة الإرهاب. عند سؤاله في وقت مبكر من حملته الانتخابية عما إذا كانت فرنسا ستتعاون مع الرئيس السوري بشار الأسد في القتال ضد تنظيم داعش، قال إن "فرنسا يجب أن تتحد مع كل القوى الممكنة، سواءً كانت ديمقراطية أم لا"، وقد صرَّح في حديث لـ"أتلانتيكو" أن "شارل ديغول وتشرشل وروزفلت تحالفوا مع ستالين من أجل هزيمة النازية". في ذلك، يختلف فيون عن منافسيه، ويبدو الأمر دليل قوة أكثر منه ضعفاً، لا سيما أن جوبيه ينتمي للمدرسة ذاتها التي ينتمي إليها كل من ساركوزي وهولاند، وهي المدرسة التي فشلت حسب الفرنسيين في مواجهة الإرهاب الذي وصل إلى العمق الفرنسي. جوبيه مقتنع بضرورة إكمال فرنسا لسياستها الحالية واعتماد الوسائل نفسها المتبّعة منذ بداية الأزمة في مواجهة النظام السوري، ومن هذه الوسائل دعم المعارضة والتحالف مع دول الخليج وترك قيادة الحملة للإدارة الأميركية. أما فيون، فيرى من الضروري التعامل مع الجيش السوري ومع موسكو، "اللذين يحاربان الإرهاب فعلاً"، حسب قوله. كما يضع الدولة الفرنسية أمام خيارين لا ثالث لهما، إما عدم التدخل المطلق في سوريا، أو قتال تنظيم "داعش" بالاشتراك مع المعسكر الذي يواجهه فعلاً. ولأن الرأي العام يبدو مختلفاً بعد الاعتداءات الدموية التي شهدتها باريس، تجد آراء فيون آذاناً صاغية، بعكس ما يرجو جوبيه الذي يتهم منافسه بأنه "يخطط للتحالف مع روسيا على حساب موقع فرنسا التاريخي" وأنه "يؤيد ضرب الأسد للمدنيين في حلب".فيون يرحب بالجيش السوري و"حزب الله"
يغرّد فيون خارج السرب فيدعو لحلف يجمع الجيش السوري مع الروسي مع "حزب الله" المدعوم إيرانياً والأكراد، إضافة، وإن بمستوى أقل، إلى الجيش العراقي. يعتبر أن هؤلاء هم الذين يقودون المعركة الحقيقية ضدّ "داعش". وعندما يُواجه بسؤال عن كيفية التعامل مع "حزب الله" الذي ورد اسمه على لوائح الإرهاب، يجيب أن التحالف يضمّ كل من يساعد على مواجهة "داعش"، عدا ذلك فـ"إن الصراع سيدوم 20 عاماً". أو يمكن أن يذهب الفرنسيون بأنفسهم لمحاربة الإرهاب هناك، و"الجميع يعرف أن الغربيين لن يذهبوا، فالأميركيون لا يودون الذهاب ومن دونهم لن يذهب الغرب". في سياق متصل، يوجه فيون سهام نقده لـ"الجيش السوري الحر" والفصائل المعارضة، فيرى أنها لا تواجه "داعش" بل تصب اهتمامها في محاربة الأسد حصراً. ويعتبر أن هذه الفصائل لن تقضي على الإرهاب، بينما يبدو للأسف أن النظام مطلوب في المرحلة الأولى في هذا الشأن. كما يرى أن الروس يمتلكون منذ البداية إستراتيجية في سوريا، على عكس الفرنسيين. وفي حديث سابق مع صحيفة "لوموند" الفرنسية، قام فيون بفعل نقد ذاتي لتدخل فرنسا في ليبيا، معترفاً بخطأ السياسة الفرنسية كونه كان رئيساً للوزراء آنذاك، ويعتبر أن "فرنسا أخذت بنتائج الثورة التونسية. وذهبت بعيداً في تقدير النتائج فأخطأت". كما يرى أن الدولة الفلسطينية ضرورية مع الحرص على تأكيد علاقاته الجيدة بإسرائيل ومصالحها.بين لوبان وترامب
يحاول فيون تقديم طروحات بشأن الهجرة تهدف للقيام بإصلاحات جديدة، تناقض طروحات ساركوزي الصارمة، وبالتأكيد تعارض تماماً طروحات اليمين المتطرف الذي تمثله لوبن. لكن الأخيرة حاولت الاستفادة من هذه النقطة لرفع حظوظها الفرنسية، لا سيما بعد الاعتداءات التي شهدتها باريس. ووسط تقدّم فيون، ما هو الحلّ مع لوبن؟ الأكيد أن الأخيرة لم تكن تتحضّر لسياق مماثل، فالمنافسة حسب الاستطلاعات الأولية كانت ستخلص إلى مواجهة جوبيه "الشيراكي"، أو مع ساركوزي. تبدو المواجهة، بحسب "لوموند"، مع هذا الكوكتيل الليبرالي "التاتشري" التقليدي المتمثل بفيون، صعبة. لكن زعيمة اليمين المتطرف تتهيأ لـ"نبش أخطائه" أثناء توليه منصب رئاسة الحكومة أيام ساركوزي. ويتخوّف العديد من "السيناريو الترامبي" المتمثل بوصول لوبان التي وصفت نفسها قبل أشهر بأنها "مرشحة الشعب القادرة على جمع الفرنسيين". المتخوفون يستحضرون من خلالها كل "الرعب" الذي عايشه الأميركيون بوصول ترامب، انطلاقاً من احتفائها بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ومن تصريحاتها المتطرفة بشأن الهجرة والهوية الوطنية، و"الوضع الدراماتيكي في فرنسا، إذ باتت الديموقراطية دمية في يد الأسياد الفعليين في بروكسل وبرلين وواشنطن"، حسب ما تقول. يستعيدون مطالبتها بإغلاق الحدود أمام اللاجئين، واستهزاءها بترحيب عمدة باريس الاشتراكية آن هيدالغو بهم، وطلبها من الأخيرة ارتداء الحجاب لـ"مزيد من الاحتفاء". فضلاً عن قولها إن "الشكل الذي قامت عليه أوروبا من قيم العلمانية والعقلانية والحريات، سوف يصبح مهدداً نظرًا لقدوم ثقافات متباينة مع الثقافة الغربية". يرجّح كثر فوز فيون، لكن تروما "المفاجأة الأميركية" تحضر في السياق. لم يعد ممكناً توقع شيء، وبالتالي إبعاد لوبان عن الصورة. صحيح أنها تشارك ترامب الكثير، لكنها تختلف عنه في نقاط كثيرة، فهو رجل أعمال وهي تعمل في الحقل السياسي فحسب، كما أن خصوصية كل بيئة تفرض نفسها، وفيون يختلف كثيراً عن كلينتون. في الخلاصة، يصبح من الأسلم انتظار أبريل المقبل، بينما الأكيد أن اليمين يعيد التموضع بقوة، والعالم يتغيّر، يتغيّر كثيراً.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 17 ساعةكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 4 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...