الضحية والجلاد: مشاهد روائيّة
- "حين تحسّ أن كل ضربة تُوجّه إلى جزء من جسدك تُوجّه معها ضربة إلى كيانك كله، إلى إحساسك وكرامتك… ذلك النوع من الضرب يحوّل المضروب إلى أنقاض مذعورة، أنقاض تتألم. وبوعي تحسّ نفسها وهي تتقوّض إلى الأسفل". تلك كانت قصة شوقي، السجين السياسي في رواية "العسكري الأسود" للروائي يوسف إدريس. شوقي الذي كان "يأكل الدنيا" بطاقته وحيويته ومبادئه تحول إلى النقيض تماماً، إلى وهم إنسان، يهمس همساً، يخاف، يكذب في أمور تافهة أثناء عمله كطبيب، يسرق المرضى، ويسرق حتى "لو فرشاة أسنان قديمة".. بطريقة مكشوفة تثير للاشمئزاز.
- عندما كان شوقي يفتش في دفتر المأموريات لاختيار الزيارات الطبيّة القريبة من منزله، وقع نظره على خطاب من المحافظة يطلب الكشف على الجندي عباس محمود الزنفلي لإثبات عجزه التام تمهيداً لفصله من الخدمة. عرف شوقي أن الزنفلي هو "العسكري الأسود"، أشهر جلّاد في المنطقة. يروي زميل شوقي كيف ذهب الاثنان لمواجهة الجلاد، الذي كان "علامة رئيسية من علامات جيلنا مثل السجون والإرهاب والأمجاد والكفاح المسلح، فكيف تفوتني رؤيتها"؟
- بدأ عباس يهبهب ويعوي، ويغرس أظافره وأنيابه في قماش المرتبة، يمزقه ويمضغ القطن، ويزداد هياجه فيبدأ بضرب وجهه بكفيه كمن يلطم، ويعمل أظافره في جلده تجريحاً وتمزيقاً.. أهوى بفمه على لحم ذراعه وغرس أسنانه في لحمه وبدأ ينهشه، والدم يتساقط من فمه ويختلط بلعابه.. في تلك اللحظة بالذات، رأيت على الحائط المجاور لفراش عباس بروازاً فيه شهادة معلقة، حروفها تلمع تحت الزجاج المتسخ كتب عليها "تقديرا لتفانيه في خدمة مصالح الوطن العليا".
- جارة عباس تهمس في أذن أخرى "لحم الناس يا بنتي اللي يدوقه ما يسلاه ( يعتاد عليه ولا ينسى طعمه)... يفضل يعضّ إنشالله ما يلقاش إلا لَحمه… ألطف بعبيدك يارب".
خطوة تاريخيّة في مسار العدالة الانتقالية في تونس والعالم العربي…
ضحايا التعذيب في تونس يشاركون رواياتهم أمام الجميع، في خطوة نحو عدالة انتقالية لم تنجح في تحقيقها بعد أي من دول الربيع
الضحيّة والجلّاد: مشاهد واقعيّة
- " الجلاد يضع مساجين عراة مع بعضهم البعض في زنزانة ضيقة، أسبوع كامل. لماذا؟ ما المعنى؟ ما العقوبة؟ الغاية أن تخرج مدمّر، محطم، عقيم. كان السجان يضربني بعنف على رأسي ويقول لي أريد أن أخرج العلم من رأسك. حاسس بألم ثماني سنوات، فاتني الكثير... سنوات السجن التي ضاعت مني من يعوضها؟ أنا أريد كشف الحقيقة، الجواب على الأسئلة، كشف المرحلة السوداء في تاريخ تونس". هذه شهادة المفكر سامي براهم، أحد ضحايا التعذيب في حقبة حكم زين العابدين بن علي لتونس. وفيها ذكر مشاهد التعذيب بسكب الماء على المساجين وتعريتهم ودفعهم على بعضهم بواسطة العصي والركل تحت التهديد بإطلاق الكلاب، مذكراً المستمعين بمشاهد سجن "أبو غريب" في العراق. حاولوا إخصاءه وتوجيهه نحو المثلية الجنسية إجباراً، حاولوا التأثير على أعصابه ليدخل عالم الجنون. لكن براهم لم يطالب بالقصاص لجلاديه، طالبهم بالاعتذار له وللتونسيين، واعتبر ما حققه في شهادة الماجستير وإنجاب "فتاة حلوة" بعد التعذيب أكبر انتصار له عليهم.
- "أنا مستعدة للتضحية بكل أبنائي من أجل أن تتحقق الحرية والكرامة التي انتفض من أجلها جزء من التونسيين في موفى سنة 2010… لا تراجع عن حق ابني ولن يهدأ بالي ما لم تتحقق الأهداف التي خرج من أجلها الشباب في سيدي بوزيد وغيرها من المحافظات التونسية في ذاك الشتاء القاسي". وريدة كدوسي، هي أم الشاب رؤوف كدوسي الذي قتل في سيدي يو زيد برصاصة في الصدر. وريدة ختمت شهادتها بـ"نصيحة" وجهتها للسياسيين الذين لا يتوجهون إلى دواخل تونس إلا زمن الانتخابات فقالت "اهتموا بالجهات التي أشعلت الثورة، فالناس فيها غاضبة وساخطة، لا شيء تغير، ولا بوادر للإصلاح، والانتفاض في أي وقت لا يزال قائمًا”.
- "لم نعد نضحك كالعادة، كل شيء صار مختلفًا، كل شيء صار مراً، ظلموا الشباب وقاموا بمحو جهاتنا لكننا لا نخاف شيئاً، اعتدنا حتى على الرصاص الحي". هذه شهادة ربح وهي أم الشاب صلاح الدشراوي.
- أبكت أم كمال المطماطي وزوجته الحاضرين في جلسة الاستماع. تحدثت الوالدة عن سنوات البحث عن ابنها بين مراكز الشرطة والسجون والمستشفيات. عن قهرها وقلة حيلتها ومرضها وجنون ابنتها (أخت المفقود) من الصدمة وصعوبات الحياة. حتى الآن لا تعلم عائلة كمال المطماطي شيئاً عن جثة ابنها المقتول تحت التعذيب والمختفي منذ سنة 1991. في النهاية، طالبت زوجته بمعرفة مكان الجثة فقط، لـ"تكريم" زوجها بدفنه وقراءة الفاتحة عليه.
العدالة الانتقالية: محاسبة أم اعتذار؟
"لا صوت يعلو اليوم فوق صوت الضحايا... إنه يوم رد الاعتبار للوطنيين الذين قاوموا من أجل بلدهم... يوم مشهود ولحظة تاريخية ستظل علامة فارقة في مسار بناء دولة القانون". هكذا افتتحت رئيسة "الحقيقة والكرامة" سهام بن سدرين الجلسات التي تابعها مئات الشخصيات المحلية والدولية. وتعتبر هذه الخطوة تاريخيّة في مسار العدالة الانتقالية في البلاد. هذه العدالة التي لم تنجح المحاكم العسكرية التي تولت النظر في قضايا ضحايا بعد الثورة في إرسائها. الجلسة الأولى سيتبعها جلستان خلال الشهرين المقبلين، تأتي كمحاولة للتصالح مع "الحقبة السوداء" الماضية، ونموذج لمنطقة عربية ما زالت تلوك آلامها ومآسيها منذ سنوات طويلة، من دون أن تنجح في طيّ الصفحة، عبر ردّ اعتبار من ظُلم ومن اختفى قسراً ومن قتل، سواء بالمحاسبة أو الاعتذار. وتنقسم فئة الضحايا إلى قسمين، الأول يرى في العدالة الانتقالية أفضل الممكن في ظلّ توازن القوى السائد مستعيداً تجارب عدة كما في جنوب أفريقيا، بينما تطالب الفئة الأخرى بمحاسبة كاملة للمرتكبين، والاقتصاص من القتلة والجلادين والفاسدين. وهؤلاء هم من قادة الأجهزة الأمنية وأصحاب النفوذ والعسكر وقيادات الحزب الحاكم وعائلة بن علي المتهمين بالتعذيب والقتل والإعدام والاغتصاب والارتشاء. قد لا يكون اليوم، الذي سيعاين فيه الضحايا "الجلاد الأسود" ينهش نفسه ويعوي كالكلاب، قريباً. لكن بن علي هرب وهذه كانت البداية، واليوم تأتي الجلسات العلنيّة لتسمح للضحايا بمشاركة رواياتهم، فيصبح الوجع مشتركاً، وبالتالي قوة المطالبة بالمحاسبة أكثر تأثيراً. لا شيء يمحي الجروح التي تحفر في الروح، لكن المحاسبة ضرورية للاستمرار والتصالح مع الذات والوطن.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه