في نوفمبر العام 1990 خرج العماد ميشال عون ببزّة عسكرية من القصر، وفي نوفمبر من العام 2016 عاد النائب ميشال عون إلى القصر رئيساً بلباس مدني. في التسعينات، رفض عون الاعتراف باتفاق الطائف الذي أنهى حرباً دموية استمرت خمسة عشر عاماً، وبدأ معه عهد الوصاية السوريّة على لبنان. وفي العام 2005 مع الانسحاب السوريّ عاد "الجنرال" من منفاه الفرنسي، ليحقّق حلمه المؤجل بالرئاسة بعد 26 عاماً. عون الذي رفض الطائف سابقاً، عاد للرئاسة تحت ظلّ هذا الاتفاق.
بعد أكثر من 40 محاولة لانتخاب رئيس جمهورية، وفراغ دام أكثر من عامين، وصل عون بإجماع سياسي بين الخصوم، وفي جعبته أكبر حصة تمثيليّة عن الطائفة المسيحية. وعاد معه الكلام عن "الرئيس القويّ"، مثيراً التساؤلات حول مستقبل اتفاق الطائف الذي كان قد "أنهى التفوق الماروني"، بعدما سحب بساط الصلاحيات من تحت الرئيس، ومدّه أمام رئيس الوزراء السني ورئيس مجلس النواب الشيعيّ.
ليس ثمة ما يشي بانهيار الطائف في المدى المنظور، فهذا الاتفاق الذي جعل من بلد الطوائف المتعددة نظاماً لطوائف متعددة، لا يجد في الصراع الطائفي الدائر في المنطقة اليوم ما يشجع على انهياره. مع ذلك، بدأ الحديث عن ضرورة تصويبه، بينما ذهب البعض في توقع سيناريوهات مستقبلية يغلب فيها الطرف المسلم على البلاد، لدواعي الديموغرافيا. وعليه، تلوح مخاوف من عودة الصراع الطائفي على قواعد أخرى.
بين "الهيمنة" و"الإحباط": طائف
قبل الدخول في هذه السيناريوهات، لا بدّ من لمحة سريعة حول اتفاق الطائف، الذي حصل برعاية سعودية، وبقي بعض بنوده غامضاً يحتمل التأويل. يبدو ما أورده الباحث في مركز كارنيغي للشرق الأوسط جوزف باحوط في سياق دراسته لـ"تفكّك اتفاق الطائف في لبنان" مفيداً في هذا المجال، إذ يقول "وضع الاتفاق أنموذجاً جديداً تماماً لتحقيق التوازن الطائفي في السلطة، من خلال إنهاء الهيمنة السياسية والرمزية التي كانت تمارسها المؤسسة المارونية. ومن خلال إسناد هذه الصلاحيات إلى مجلس الوزراء، حيث كان التكافؤ الديني يشكّل ضمانة رسمية للمساواة بين الطوائف، نشر اتفاق الطائف السلطة ووزعها، ما جعل من الصعب تحديدها وممارستها. لم يكن واضحاً أيضاً من هو الطرف الذي سيكون مسؤولاً عن اتخاذ القرارات". مع ذلك، لم يعنِ ما سبق أن رئيس الوزراء السني هو المستفيد الرئيس من عملية نقل السلطة هذه، بعدما تمّ اعتماد تدابير أخرى لتجنّب الوصول إلى مثل هذه النتيجة. إذ عليه، باعتباره الشخص الأساسي في برامج عمل مجلس الوزراء، أن يعمل على صياغتها مع رئيس البرلمان. هنا يضيف باحوط "إذا بدا للبعض أن رئيس الوزراء السنّي هو الملك الجديد، فقد كان رئيس مجلس النواب الشيعي صانع الملوك في نهاية المطاف. كما تمّ منح رئيس البرلمان سيطرة واسعة على النشاط التشريعي، وإمكانية التأثير الكبير على أصوات الوزراء والنواب الشيعة".مع الكهولة التي تغزو الهرم العمري لدى مسيحيي لبنان، سيجدون مستقبلاً صعوبة في تبرير سيطرتهم على نصف المجلس النيابي
ليس ثمة ما يشي بانهيار قريب لاتفاق الطائف، ولن يكون من السهل على الرئيس اللبناني الجديد استعادة صلاحيات الرئاسةما أظهره الاتفاق هو أن التفاعل بين المسيحيين والسنّة والشيعة حرّك الحياة والواقع السياسي بعد الحرب، لكن هل حقّق ذلك تكافؤاً فعليّاً بين المسيحيين والمسلمين؟ في الواقع يبدو أن اتفاق الطائف أنهى التفوّق الماروني ليحلّ محله ما درجت تسميته بـ"الإحباط الماروني"، مقابل الهيمنة المتصاعدة بين الطائفتين الإسلاميتين الرئيستين، والتي باتت اليوم دموية نتيجة الصراع المذهبي المحتدم في المنطقة.
"المسلمون سيأكلون البلد"؟
ضَمِن الاتفاق المكانة الشكلية للموارنة عبر رئيس جمهورية يكاد يكون منصبه فخرياً، ولكن اليوم وبينما يُحكى عن الرئيس القوي ستبدأ المطالبة بصلاحيات أكبر تمهيداً للخروج من عباءة الطائف. قد يعتبر كثر هذا الأمر في مصلحة المسيحيين، لكن للديموغرافيا كلمة أخرى. هذا ما تؤكده مجلة "الإيكونوميست" البريطانيّة، من دون أن يعني ذلك أن الأخيرة تدافع عن الاتفاق، بل تشير إلى أن نسب التمثيل التي حظي بها المسيحيون في الاتفاق مبالغ بها، فلهم 64 مقعداً من أصل 128 في المجلس النيابي، أي النصف، والباقي يتوزع بين السنة والشيعة والدروز. وبما أن الأدبيّات السياسية تحكم أن يرتبط التمثيل بحجم كل طائفة، والديموغرافيا تشير إلى تراجع الحجم المسيحي، تصبح الدعوة لإلغاء الاتفاق، بحسب المجلة، ضرورة. هكذا كي لا يصبح الأخير الذي أنهى حرباً سبباً في حرب جديدة. تقول المجلة إنها حصلت على قوائم الناخبين في لبنان، كانت قد نشرتها وزارة الداخلية مطلع العام 2016 لتعود وتسحبها سريعاً. تشي هذه القوائم بالكثير عن التوزيع الديموغرافي ومستقبله لبنانياً. يشكل المسيحيون 37% من الناخبين، بينما تصل نسبة المسلمين إلى 57% (29% من الشيعة و28% من السنة). وبينما تفوق نسبة الناخبين المسلمين نسبة المقاعد المخصصة لهم في البرلمان، تنعكس النتيجة لدى المسيحيين، فتتفوّق نسبة المقاعد على نسبة الناخبين. الأكثر إثارة للاهتمام في القوائم التي نشرتها المجلة هو الهرم العمري بين المسلمين والمسيحيين، فلدى الطرف الأول يبدو الهرم فتياً مقابل كهولة تغزو الهرم الثاني. لدى المسلمين يُشكّل الفتيان 75%، بينما تظهر النسبة نفسها بشأن المسنّين لدى الطائفة المسيحية. المشكلة، بحسب المجلة، هي في المستقبل الذي لا يبشّر بازدياد عدد المسيحيين في لبنان، بل يبدو الوضع على عكس ذلك، لا سيما مع انخفاض نسبة الولادات وارتفاع معدلات الهجرة في ظلّ المخاوف من التطرّف الإسلامي الضارب. وعلى الرغم من استبعاد خيارات التوطين في ظلّ وجود نحو نصف مليون فلسطيني وأكثر من مليون ونصف سوري (معظمهم من المسلمين)، لا تُحلّ مشكلة المسيحيين، فمع هذا الهرم العمري المتقدّم بشكل سلبي، سيجد المسيحيون مستقبلاً صعوبة في تبرير سيطرتهم على نصف المجلس النيابي. ترى المجلة أن عون سيواجه معركة شاقة إذا سعى لاستعادة الصلاحيات المسلوبة من الرئيس في اتفاق الطائف، في وقت لم يجد اللبنانيون وقتاً لتصويب الطائف أو إلغائه (مع العلم أن أساس وضعه كان انتقالياً هدفه التمهيد لانتخابات غير طائفية مستقبلاً) بسبب الصراعات المستمرة في المنطقة. وبين ضرورة الخروج من الصيغة الطائفية وخوف الديموغرافيا القادم، يتابع الطائف، في عامه السادس والعشرين، الترنّح ويؤجّل السقوط.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين