تبيت فاطمة حمزة، المربّية في مدارس "المبرّات الخيرية"، ليلتها في السّجن بينما يحضن زوجها زوجته الأخرى وابنه. جريمة فاطمة أنّها أمٌّ تلعب دورها الطّبيعي، تحافظ على ولدها، تربّيه، وتحميه حتّى من كيد أبيه.
يغيب زوج فاطمة عنها منذ أكثر من سنتين، والغيبة الزّوجية –الغيبة هي المصطلح المعتمد شرعاً- تعتبرٌ باباً للطلاق يمكن للمرأة الولوج منه، ضماناً لحقوقها كزوجة سابقةٍ ومطلّقةٍ مستقبلية، أي أبسط الحقوق الحياتية، كالنّفقة وحقّ الحضانة والمسكن المستقل.
يتعذّر تطبيق أحكام "الغيبة" المنصفة للمرأة في لبنان، بسبب سلطة المحاكم الشّرعية التي تتدخّل تحت غطاءٍ قانوني في الأحكام النّهائية، وتشكّل متراساً ذكورياً يحمي في أغلب الأحيان الزّوج ولو على حساب زوجته وأولاده. لا مانع عند بعض القضاة الشّرعيين/رجال الدّين من حرمان طفلٍ من أمّه، لمساعدة الوالد على جلدها والتّشفي بها.
شرعاً، يحقّ للرّجل انتزاع حقّ الحضانة من زوجته عند بلوغ ابنته سنواتها السّبع، بينما يختلف الفقهاء في الدّين على عمر الصّبي، فمنهم من يؤكّد أن العمر الفعلي هو "حولان كاملان"، أي سنتان، ومنهم من يساوي عمر الذّكر بعمر الأنثى، لكن الأكيد أن الشّرع يضمن للأم حقّ الحضانة حتّى يبلغ الأطفال سنّ التّمييز والاختيار. محاكمنا بمعظمها لا تراعي تطبيق الأحكام الفعلية، فالتّلاعب بمصائر الأطفال غير مشمولٍ بالحساب "الإلهي" الذي يلوّحون به، هراوة الدّين التي يحملونها يستعملونها لتعميم ظلم الأبناء وحرمانهم من أمهاتهم، لا لشيء، إلا لأن زوجاً يريد الانتقام من زوجةٍ طلّقها. إنهم لا يعيرون اهتماماً لصحّة الطّفل النّفسية، يستغلّون قوانين باليةً تمنع الأم من حضن/حضانة ولدها، أو يرضخون لضغوط زوجٍ قادر لتنفيذ جريمة سلخ الإبن/الإبنة عن الأم.
فاطمة حمزة ليست مطلّقةً بعد، يرفض زوجها إعطاءها حرّيتها، تناضل هي في المحاكم لانتزاع حكمٍ قضائي منصف، ويعيش هو حياةً طبيعية بعد أن أسّس عائلةً جديدة. إنسانياً، ترجح كفّة الميزان لصالح فاطمة، فهي تربي ولدها دون نفقةٍ من زوجها، لا نفقةٍ عاديةٍ ولا نفقةٍ مستعجلة، طُردت من المنزل بعد زواج زوجها وتحرص على تربية ولدها البالغ من العمر ثلاث سنواتٍ وحدها، أما في الواقع، فلا ميزان ولا عدالة، الزّوج هو الرّابح، المحكمة أسقطت عنه تكاليف النّفقة، لا يريد الزّوج الطّلاق ببساطة، فكيف لفاطمةٍ ان تطلب نفقةً لها ولإبنها؟ تمنّع الزّوج عن الطّلاق ليس حبّاً بالأم بل لتجنّب دفع "المؤخّر" الواجب شرعاً، فيفاوض الأمّ على حرّيتها من سجنه، إمّا أن تتنازلي عن حقوقك المادّية والمعنوية، بما فيها حضانة الطّفل، أو أن تبقي معلّقة لا مطلّقة، والمحكمة "معي" وإلى جانبي!
تقدّمت فاطمة باقتراحٍ للمحكمة الشّرعية يقضي بالتّنازل عن حقوقها عند الطّلاق، بشرط الحفاظ على حضانة ولدها، أي كمخالعةٍ ضمنية، وحل رضائي مع زوجها يقضي بإبرائها من جميع حقوقها، أي تنازلها عن المؤجل والمعجل ونفقة العدة، ردّ المحكمة والزّوج كان برميها في السّجن.
يبدو أنّ الزّوج فشل في التّشهير بسمعة فاطمة، وبالتّالي، بطلت مفاعيل دعوة "بيت الطّاعة" – الإطاعة- الفعلية. بحسب الإطاعة، الرجل رأس المرأة شرعاً، و"طاعته" واجب عليها، بالتّالي، عليها ملازمة منزل الزوجية والخروج بإذن لزيارة الأهل أو حتى العمل. في العادة، ترفع المرأة تفريقاً بالتّزامن مع دعوى النّفقة على زوجها، ليردّ الزوج على الدّعاوى بدعوى الإطاعة، وفي حال رفضت الزّوجة الإطاعة أو تمنّعت، اعتبرت ناشزاً وجردت من جميع حقوقها (المهر والنفقة والحضانة). فشل زوج فاطمةٍ في تطبيق ذلك ربمّا لتخلّفه عن دفع "المعجّل" او "المؤخّر"، فلم تُعتبر فاطمة ناشزاً شرعاً، ولكنّها حرمت من حقوقها وأبرزها النّفقة والحضانة.
يمثّل الدّينَ، أو من المفترض أن يمثّل نسخةً عن العدالة الالهية، دستوره وأحكامٌ نبوية، وسلطته الشّرعية لا تحتمل الخطأ أو الظّلم، وبالتّالي، لا يمكن للقاضي الشّرعي أن يخطئ أو يظلم. وعليه، يجب أن يكون معصوماً لا محال، ولا معصومون بيننا، آخر المعصومين بحسب الرّوايات والتّاريخ هم الانبياء والأئمة. المعصومون يسكنون التّاريخ بينما تسكن المحاكم الشّرعية القرون الوسطى، فمعظمها لم تحدّث قوانينها ولم تراعِ رحمةً ولا إنسانية.
تقبع فاطمةٌ بالسّجن، وقد تُجبر لاحقاً على التّسليم بالواقع والتّخلي عن حقّ حضانة طفلها. وهناك المئات من "الفواطم" اللواتي يواجهن الظّلم ذاته، من المؤسّسة ذاتها، ومن عقليةٍ زوجيةٍ ذكوريةٍ تناسخت نفسها نماذج وحشيةٍ حتّى بحقّ أبنائها.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
أحمد لمحضر -
منذ 8 ساعاتلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ يومينالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 3 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري