الكرافات التي يعتبرها بعضهم مجرّد زينة لعُنق الرجل، تضفي عليه نوعاً من الأناقة والجاذبية، يعتبر الخبراء أنها غالباً ما تحمل رسائل سياسية "مُبطّنة"، وتعكس شخصية مرتديها وطبعه وثقافته.
مرّت الكرافات بتغيّرات عدة عبر الزمن، تبدّلت أشكالها، وفق الموضة والأذواق، وتباينت بين قصيرة وطويلة، ورفيعة وعريضة، ولكنها كانت دوماً "صديقة" السياسيين بامتياز، الأمر الذي أثار فضول المحللين، وجعلهم يعكفون على البحث والمقارنة والتنظير والنبش في التاريخ، في محاولة لتصوّر نسق عام وقانون يفسّر قوتها ويكشف رسائلها.
في ما يلي، نأخذكم في رحلة شائقة، مع قطعة قماش أثّرت في التاريخ، ورافقت لحظات مفصلية، وأحداثاً مصيرية، فكانت بشرى لبعضهم وفألاً حسناً، وشؤماً لآخرين. من الانتخابات الرئاسية الأمريكية وربطات العنق التي اختارها المرشحون، إلى اللقاءات التاريخية التي مهدت لانتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية، إليكم نظرة قريبة إلى ربطات عنق رجال يحلم الكثير من المواطنين في وضع أياديهم حولها…
من أداة شنق إلى ثقافة وحضارة
يعود تاريخ الكرافات - المشتقة من كلمة "كروات" - إلى أوائل القرن السادس عشر، حين استخدمت لإعدام الجنود الكرواتيين خلال الحرب التي دارت بين دول شمال ووسط أوروبا، عبر تعليقهم بها. واللافت أن النساء في تلك الحقبة كن يُحطن بها أعناق أزواجهنّ، قبل توجّههم إلى ساحات القتال، تعبيراً عن الحب والوفاء. أما في العالم العربي، فقيل إن المصريين القدماء أوّل من استخدم ربطة العنق، إذ عمد أبناء الطبقة الراقية إلى ربط قطعة قماش دائرية الشكل عند الرقبة، وإسدالها على الكتف. وتكشف الرسوم المنقوشة على الجدران والتماثيل والبرديات، تفرّد ربطات العنق في هذه الفترة بأشكالها الهندسية وألوانها الزاهية، مع إقبال الرجال والنساء على ارتدائها كقطعةً أساسية تميّزهم عن الطبقة العاملة.
أداة سياسية بامتياز
في مختلف المعارك الانتخابية، يحاول كلّ مرشّح أن "يُسوّق" نفسه بتلميع صورته أمام الشعب، غير أن الخبراء والمحللين لا يتوقفون فقط عند خطابات السياسيين، إنما يذهبون إلى أبعد من ذلك، فيحلّلون لغة الجسد وألوان الملابس، خصوصاً ربطة العنق. واعتبر المؤلف الفرنسي "جان كلود كولبان" في كتابه "ربطات العنق"، أن الكرافات لم تعد رمزاً للخضوع والامتثال للعادات والتقاليد، إنما أداة يعبّر بها الرجل عن شخصيته وتطلّعاته، خصوصاً في "دهاليز" السياسة. ويقول الخبراء إن هناك لونين أساسيين في عالم السياسة والمال: الأزرق والأحمر، وبحسب دراسة وردت في "جورنال ساينس" عام 2009، يشير اللون الأحمر إلى الحُب والسُلطة والنُبل والاهتمام بالتفاصيل، فيما اللون الأزرق يدلّ على الإبداع والسلام والصفاء.لا يتوقف الخبراء والمحللون عند خطابات السياسيين فقط، إنما يحلّلون لغة الجسد وألوان الملابس، خصوصاً ربطة العنق!
ربطة العنق تستطيع أن تحمل رسائل سياسية أيضاً، تعرفوا على لغتهاولو حاولنا تطبيق هذه النظرية على انتخابات الرئاسة الأميركية، والمناظرات التليفزيونية "المشتعلة" بين المرشحين، وتوقفنا عند ألوان ربطات العنق، وارتباطها بالفوز والخسارة، فسنجد دلالات مثيرة. ولنبدأ من عام 1960، عندما أقيمت أوّل مناظرة رئاسية في أميركا، بين جون كينيدي وريتشارد نيكسون. ففي الوقت الذي ظهر فيه كينيدي مستعداً تماماً لخوض الانتخابات ببدلة داكنة، واقفاً بثقة أمام خصمه نيكسون، بدا الأخير مريضاً، ببدلته الرمادية الباهتة، فكان كأنّه مُهيّأً ليخسر معركته. وفي السياق ذاته، توقّف موقع "الدورادو" عند أبرز المناظرات الرئاسية الأميركية في عصر التليفزيون الملوّن، من عام 1976 إلى عام 2016، وحلّل ثياب المرشّحين، خصوصاً ألوان ربطات العنق التي "جلبت الحظ السعيد" لمرتديها، وتوصّل إلى أن 36 من أصل 59 مرشحاً (61%) ارتدوا ربطة عنق حمراء، و16 (27%) ارتدوها زرقاء، ما يشير إلى أن الأحمر كان المَلك.
هل يخذل الأزرق ترامب في الانتخابات؟
تشهد الولايات المتحدة الأميركية حالياً، معركة محتدمة بين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون، التي مزّقت في أول مناظرة كل قيود "إتيكيت الملابس"، وارتدت - للمرة الأولى في تاريخ المناظرات - ثياباً رسمية حمراء، عوضاً عن الأزرق الداكن أو الرمادي، في حين أطلّ خصمها بربطة عنق زرقاء. وتوقّف موقع "بيزنيس إنسايدر" عند هذا الموضوع، وتساءل عن سبب كسر ترامب القاعدة، واللجوء للون الأزرق في ربطة عنقه، وهو الذي يطلّ بكرافات حمراء في أغلب المناسبات. وعلى ما يبدو، أدركت مرشحة الحزب الديمقراطي أهمية الظهور بالأحمر، كونه لوناً يدلّ على الشغف والقوة، ويملك قدرة حقيقية على لفت الأنظار، وفي الوقت نفسه تنبّهت إلى أنه من غير اللائق أن يطلّ المرشحان باللون نفسه، فكيف أقنعت خصمها بمخالفة عاداته الأثيرة، والقبول بارتداء ربطة عنق زرقاء؟ في إحدى المقابلات التي سبقت المناظرة، سُئلت كلينتون عن لون الكرافات الذي تعتقد أن ترامب سيختاره في المناظرة الأولى، فأجابت أنها على ثقة تامة من انحيازه للون الأحمر. وبما أن دونالد يتابع عن كثب تصريحات كلينتون، فقد قرّر مخالفة توقعاتها، ليُظهر للناس كيف أخطأت في تحليلها، فلجأ للون الأزرق. فيما تؤكد صحيفة نيويورك بوست أن اختيار الألوان في المناظرة الأولى لم يأتِ عبثاً، وهو ذو دلالة كبيرة. يبدو صحيحاً أن ترامب يعشق لعبة السياسة، لكنه يفتقر إلى الخبرة. ويوم المواجهة، أراد أن يُظهر حالة من الاستقرار، فضلاً عن الثقة والوفاء، وهذا ما دفعه لاختيار اللون الأزرق لربطة عنقه.الكرافات في العالم العربي: وجاهة أم عمالة؟
في العالم العربي، احتلت الكرافات أيضاً مكانة مهمة، ولعبت دور "حامل الرسالة"، وواكبت مراحل زمنية مهمة، ومحطّات تاريخية خطيرة.السياسة اللبنانية بالألوان
في لبنان، يمكن القول إن للكرافات صولات وجولات، بعد "تسييس" الألوان، فالبرتقالي مثلاً بات حكراً على "التيار الوطني الحر"، ويحرص أعضاؤه، في مختلف المناسبات التليفزيونية، على استخدامه لربطات أعناقهم، للدلالة على انتمائهم للتكتّل، أما تيار المستقبل، فاختار الأزرق، لذا فإن معظم إطلالات الرئيس سعد الحريري، لا تكاد تخلو من كرافات بهذا اللون. وبسبب المدّ والجزر السياسيين اللذين يشهدهما البلد، خصوصاً في المرحلة التي سبقت الانتخابات الرئاسية، الملأى بالمفاجآت، حملت ألوان ربطات العنق دلالات عدّة. فبعد صراع دام 27 عاماً، عُقدَت مصالحة تاريخية بين رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، وزعيم التيار الوطني الحرّ، العماد ميشال عون، ومن راقب حينها المشهد العام، لاحظ أن الابتسامة كانت سيّدة الموقف، وكلمة السر بين خصمي الأمس وحليفي اليوم. اختار جعجع لهذه المناسبة ربطة عنق رمادية تدل على القوة، وفي الوقت نفسه، تعكس شخصية هادئة، مفكّرة، ومخطّطة. أما عون فوضع ربطة عنق زرقاء داكنة، دليلاً على الثقة والإخلاص، ولتوجيه رسالة مفادها "لست في موضع المزاح، كن جدّياً في التعاطي، ولا تعبث معي". وبعد عامين ونصف العام، من شغور كرسي الرئاسة، نجح مجلس النواب اللبناني في اختيار العماد ميشال عون، رئيساً للبلاد، في ظل متابعة دقيقة من سمير جعجع، مع قياديّي القوات اللبنانية ومسؤوليها، مباشرة من معراب، وظهر بربطة عنق وردية، تدل على الصداقة، والانفتاح على الآخر، والرغبة في بناء علاقة قوية معه. أما رئيس حكومة لبنان السابق، سعد الحريري، فيميل إلى الأزرق، كونه اللون المحبّب لدى أنصار تياره. وعندما اتخذ خطوة مفاجئة، تمثّلت في ترشيح ميشال عون لرئاسة الجمهورية، أطلّ من بيت الوسط، وهو يضع ربطة عنق زرقاء داكنة، دلالة على الهدوء.مونولوج بشار
وإذا توقّفنا عند أبرز مقابلات الرئيس السوري، بشار الأسد، فسوف نلاحظ أنه في مختلف إطلالاته الإعلامية، يختار بدلة كحلية أو سوداء، ويضع ربطة عنق زرقاء. وخلال مقابلة له مع قناة راي الإيطالية، اختار كرافات زرقاء، إشارة إلىالهدوء والتريّث، والتفكير بخطوات عملية لامتصاص الأزمة السياسية،خصوصا، أن المقابلة ركّزت على الخطوات التي يجب عليه اتخاذها في سياق المرحلة الانتقالية. أما في المقابلة التي أجرتها معه مجلة "فالور اكتويل" الفرنسية، فقد اختار الأسد وضع ربطة عنق داكنة، تميل إلى الأسود، لتعكس إستيائه من تصريحات الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، الذي اعتبر أن الأسد "لا يمكن أن يكون الحلّ، كونه جزءًا من المشكلة". وفي مقابلة حديثة مع قناة "إن بي سي" الأميركية، ارتدى الرئيس السوري بدلة كحلية، وربطة عنق زرقاء داكنة، ووفق نظرية الألوان، كان لا بدّ من اختيار الأزرق، للدلالة على الهدوء والصفاء وعدم السقوط في فخ الرسائل السياسية الخاطئة، خصوصاً أن الأسد سُئل في المقابلة عن علاقته بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وسياسة روسيا، ودعمها للقوات السورية، وتطرّق إلى موضوع الرئاسة الأميركية.السيسي من لون الاستقرار إلى السواد
أدّى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، اليمين الدستورية - بعد قرابة عام من الإطاحة بالرئيس محمد مرسي - مرتدياً بدلة كحلية، وربطة عنق زرقاء، في إشارة إلى حالة الاستقرار التي وصلت إليها البلاد، والسلام والهدوء، بعد الاضطرابات التي كانت سائدة. في المقابل، عندما كان السيسي يدلي بخطاب افتتاح مشروع “بشاير الخير”، ارتدى ربطة عنق خضراء، في إشارة للتجانس والأمل في نمو اقتصادي مزدهر. ولتأكيد نظرية انسجام ربطات العنق مع الأحداث، نلاحظ أن الرئيس المصري خلال مقابلة حصرية له مع فرانس 24، ارتدى ربطة عنق سوداء، إشارة إلى رسمية المقابلة، كونها كانت الزيارة الأولى التي يقوم بها السيسي إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن تركيز المقابلة على مواضيع شائكة، مثل آفاق التعاون العسكري مع فرنسا، ومكافحة الإرهاب والتصدّي لـ"داعش".كرافات الكُفر
رغم الظروف التي تحتّم على السياسي الظهور غالباً ببدلة وكرافات،اشتهر زعماء وقادة بعدم الاستسلام لذلك، مثل الرئيس التونسي السابق، منصف المرزوقي، الذي كان يضع ربطة عنق حتى أصبح مطلوباً منه أن يبدو في مظهر الرجل البسيط القريب من الشعب، فكفّ عن وضع الكرافات. وكان الزعيم الراحل، معمر القذافي، يرفض وضع ربطة العنق المعروفة في ليبيا باسم "القرواطة"، وكذلك الزعيم الراحل ياسر عرفات الذي ظل حتى وفاته، يرتدي اللباس العسكري والكوفيّة الفلسطينية، حتى في المناسبات الرسمية، بالإضافة إلى رئيس الحكومة الفلسطينية، إسماعيل هنية، الذي نزع الكرافات بعدما أدّى اليمين الدستورية، دون أن ينتقده أحد، حتى زار إيران، بعد اندلاع الثورة السورية، فسخر منه بعضهم قائلاً: "نرى قائدي حماس، مشعل وهنية، لا يرتديان الكرافات أسوة بالإيرانيين". ودخلت الشريعة على خط المواجهة، فصدرت فتاوى من بعض رجال الدين الشيعة، تحرّم ارتداء الكرافات، كونها "بدعة غربية" ذات دلالات دينية، وترمز بشكلها إلى الصليب، واستخدامها يضع صاحبها في خانة العمالة والكفر.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...