شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
إمبراطور الصين الأول وجيشه

إمبراطور الصين الأول وجيشه "الصامت" في ضيافة قطر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 26 أكتوبر 201607:43 م

يستضيف متحف الفنون الإسلامية في الدوحة (من 7 سبتمبر 2016 حتى 7 يناير 2017) معرضاً استثنائياً من قارة آسيا، وبالتحديد من الصين، بعنوان: "كنوز من الصين". ولعل أهم ما يضمه المعرض تلك القطعُ من ضريح الإمبراطور الصيني المدفون تحت الأرض منذ أكثر من 2200 عام، ولكن على عظمته، يجدر أن يكون العنوان المرافق لآثاره: "كنوز من الصين مجبولة بالمآسي والدماء". يستحضر المعرض أسئلة صعبة قد لا تحب قطر إثارتها، فهل كان الاختيار عشوائياً أم متعمداً؟ إذا كانت هذه الآثار شاهداً على فترات من تاريخ الإنسانية، فكيف نقارب تردد صداها في مشاكل البشرية اليوم، وأشكال العنف والعبودية التي يشهدها العالم، خصوصاً في دول الخليج التي تضاهي ناطحات سحابها، وفنادقها وأبراجها مثيلاتها في العالم كله، ويعيش عمالها الأجانب ظروفاً قاسية؟ فهل هناك إمكانية لإنشاء علاقة حيادية تجاه هذه الآثار، باعتبارنا مجرد زوار للمعارض، خصوصاً في ضوء معرفتنا الموثقة للظلم والخوف اللذين عاناهما الآلاف ممن عاشوا فيها، أو هلكوا أثناء بنائها؟ اختار المعرض قطعاً فنية أثرية تغطي 5,000 عام من الحضارة الصينية، في ثلاثة محاور: "بداية الحضارة: ممالك وطقوس"، "الازدهار وطريق الحرير"، و"الإمبراطورية الصينية وفنونها". ويقدم المعرض الفترة الممتدة من العصر الحجري الحديث (النيوليت)، حتى آخر ممالك الصين، التي عرفت بإمبراطورية تشينغ العظيمة من القرن السابع عشر (1644 م) حتى بدايات القرن العشرين (1912 م). وسنعرض هنا باختصار قسم الضريح اللغز.

من معرض "كنوز من الصين" في متحف الفن الإسلامي في قطر

قبر عظيم لإمبراطور استثنائي

قد يكون هذا الضريح، الذي اكتشف شمال غرب الصين في مدينة شيان، من القرن الثالث قبل الميلاد، من أغرب وأضخم قبور الملوك المعروفة حتى اليوم في العالم كله. قصة الإمبراطور الأول، شينغ (كين) شي هوانغ، كالآثار التي تركها، كانت استثنائية في كل تفاصيلها. فبعد أن أصبح ملكاً، وهو ابن ثلاثة عشر عاماً، بسط سيطرته على جميع ولايات الصين المتحاربة، ووحّدها عام 221 ق.م. ثم نصّب نفسه "إمبراطوراً" عليها. وهو نفسه من اجترح هذا اللقب للمرة الأولى في التاريخ، ومن هنا كانت تسميته "الإمبراطور الأول". وقد تربع عرش ممالك الصين مجتمعة بعد أن وحدها، وحكمها حتى مماته في 210  ق.م. كانت رؤيته لمشروع توحيد الصين شاملة، لذلك، أرفق توسعه العسكري الناجح، بإصلاحات إدارية واسعة وعمارة، وشق طرقاً ربطت أرجاء الصين بعضها ببعض. كما شملت أعماله توحيد الموازين والمقاييس وأشكال الحروف، لتكون وحدة الصين متماسكة ومنضبطة في كل مناحي الحياة.
هل يجوز الاحتفال بعظمة الآثار، وسلطة الحكام وشهرتهم، على حساب ما عاناه مئات الآلاف من العمال والفنانين والصناع؟
نصب في هذا الضريح، مع الإمبراطور، جيش كامل من 8000 مقاتل، و520 حصاناً، مصنوعة من الطين المجفف (Terracotta)، وحولهم منحوتات لراقصين بهلوانيين وموسيقيين. وقد تبين بعد تدقيق طويل في بحث فريق عمل الآثار المختص بتنقيبه، بأن تفاصيل الوجوه لكل منها مختلفة بعضها عن بعض: في تسريحة الشعر، وملامج الوجه، وشكل الشوارب واللحية والحواجب، ثمّ في اللباس بأدق تفاصيله: الحزام، ياقة البدلة، شكل الدرع، وما نقش عليه. وكان استنتاج الباحثين، أن نحت كل تمثال من تماثيل أفراد ذلك الجيش الهائل يشكل فرادة مذهلة.

آثار مجبولة بالدم والمآسي

قدر الباحثون، استناداً لتحليل التواريخ والتواقيع المنقوشة على الأسلحة الحربية، عدد العاملين بما يزيد على 700 ألف. كما تم تخمين هويات بعضهم من مقبرة جماعية، اكتشفت على بعد أمتار من هذا الضريح الهائل، إذ وجد مع كل شخص مدفون "هوية" تعريف، ومن هذه الوثائق استطاع فريق البحث استشفاف الظروف المرعبة التي عاشها العمال، والساعات الطويلة المضنية لتنفيذ هذا المشروع الأسطوري في حجمه. وتبين أيضاً سبب تسخير هذا العدد من العمال، فقسم منهم كان مديوناً للحكومة، وكانت خدمته في بناء الجيش الحجري تعويضاً عن الأموال التي لم يقدر على تسديدها. ومع أن بناء هذا الضريح بهذا الشكل لا يزال لغزاً، فإن معظم الباحثين يعتقدون أنه بُني بأمر من الإمبراطور ليحميه في مماته. ومعظم التخمينات تصب في ترجيح واحد: المعتقدات التي اعتنقها الإمبراطور حول الحياة بعد الموت، وطموحه بالعظمة واستمرارية منصبه بعد موته، قد يكونان السببين الرئيسين وراء هذا المشروع الضخم. ولا بد هنا من ذكر جانب هام من حكم شي هوانغ: فقد تسارع تحت إشرافه إتمام بناء سور الصين العظيم، الذي كان هدفه الأول إستراتيجياً عسكرياً، وربما كذلك رمزياً للتأكيد على قوة الصين ووحدتها الوليدة. وخلال حكم شي هوانغ أيضاً أحرقت الصين بأمر منه مئات الكتاب، وتم إعدام عشرات المفكرين حرقاً ممن لم تتفق فلسفتهم مع مشروع توحيد الصين. فالازدهار والتوسع جاءا على شكل تعسف وقتل ومحو لكل ما يقف في طريق ذلك. ونرى مثل ذلك في هذا الضريح الضخم: فاليوم تتناقل قطعه كشاهد مادي على عظمة في الإبداع والرؤية والنجاح العسكري، ولكن في كل قطعة كذلك تتجسد تواريخ الأفراد الذين نحتوها ودفنوا قربها. فكيف نحتفي بإحداها ونتجاهل الأخرى؟ وإذا كان هناك إجماع على أنّ علينا مسؤولية كبيرة تجاه القيمة الأثرية لأعمال كهذه، فكيف تغيب مسؤوليتنا تجاه تواريخ من بناها؟

زيارة المتاحف وقراءة التاريخ

هل يكون الاحتفال بعظمة البناء، وسلطة الحكام وشهرتهم، على حساب ما عاناه مئات الآلاف من العمال والفنانين والصناع، الذين نفذوا ذلك الضريح الأسطوري، وما تعرضوا له من الضنى والإرهاق حتى الموت؟ وحين نزور هذا المعرض، هل يمكن أن نتناسى تقاطع سياقاته مع ظروف آلاف العمال الأجانب في دول الخليج اليوم، الذين يعيشون في ما وصف بأنه نوع جديد من "العبودية"؟ لأن لنا الدور الأول في استمرارية وتجديد قيمة هذه التواريخ وآثارها الباقية كزوار لقطعها المعروضة في متاحف حول العالم، لا بد أن نسأل أنفسنا: كيف نتعامل مع هذه الآثار الاستثنائية بحيادية؟ إذا كان من الخطأ أن نسقط على تقييمنا لها، معايير مستمدة من ظروفنا المعاصرة، فهل يعطينا ذلك حيادية مطلقة كقراء للتواريخ التي أنتجتها؟ أو هل يعفينا قدمها من أي مسؤولية تجاه الجانب الإنساني المؤلم لتاريخها؟ وختاماً أسأل، أين تبدأ هذه المسؤولية، وأين تنتهي؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image