في حي التجارة بدمشق، قرب حديقته المعروفة بـ"جنينة البطات"، التي تؤمها عائلات من مختلف الطبقات الاجتماعية، منهم لممارسة الرياضة ومنهم "للسيران" المعروف في دمشق، ومنهم لاصطحاب الأطفال، يوجد سيارة لونها بلون الفستق الأخضر. السيارة متوقفة عند الزاوية اليسرى للحديقة، وقد تمر بجانبها من دون أن تلفت نظرك في البداية، لكن الممر الضيق الذي يصلها بسور الحديقة، ويفضي إلى داخلها يثير الفضول، ويدعوك لاكتشاف سرها.
بحذر شديد اجتزت الممر الذي لا يتجاوز طوله مترين، فوجدت نفسي أمام سيدة في الخمسين من العمر، تجلس في فسحة صغيرة وكأنها مكان للضيوف.
استقبلتني بحفاوة خففت من توجسي، ثم دخل رجل ستيني، ألقى السلام، وابتسامة تعلو وجهه، وطلب أن أجلس على كرسي صغير من القش. وبينما يعد القهوة التي أصر أن يقدمها إلي، أخبرني لماذا يعيش في هذه السيارة مع عائلته، التي تتكون من زوجته وابنته (8 سنوات)، وابنه (12 عاماً). ثم أشار إلى المرأة التي استقبلتني وقال: "هذه أختي زائرة لدينا".
يعيش محمد عيد القوادري في هذه السيارة منذ أربع سنين. تاجر جملة من عربين إحدى ضواحي دمشق شُرد كما الآلاف من السوريين، وأُجبر على إخلاء منزله، الذي يشغل مساحة تقدر بـ120 متراً مربعاً. كما احتل مسلحون مستودعه، الذي يجمع فيه بضاعته قبل توزيعها للتجار.
أما لماذا اختار أن يعيش في سيارة لا تحميه من قيظ الصيف ولا من برد الشتاء، فيقول: "أماكن الإيواء المتوفرة لا يوجد فيها شرط إنساني واحد. غرفها مقسمة بواسطة بطانيات أو ستائر، وكل شيء متداخل وتفتقد الخصوصية. فضلت الاحتفاظ ببعض إنسانيتي، ولو في سيارة أنا أملكها".
في ظل الحرب الدائرة في سوريا وصعوبة العيش، تحاول هذه العائلة تأمين مستلزمات الحياة اليومية. ويصر محمد على إرسال أولاده إلى مدارس قريبة من مكان إقامته، لأهمية التعليم في نظره. يقول: "علاقتي مع الجيران جيدة وكلهم يساعدونني، وزوجتي تعمل الآن في إحدى مؤسسات الخضار والفواكه، وتجلب معها حصتها مما يتبقى في آخر النهار". ويضيف: "لا نفكر بالهجرة خارج البلد أبداً، فالبلد بلدنا".
جمال المصري حول سيارته إلى ورشة خياطة
جمال المصري من حمص، في الخمسين من عمره، وهو من حي جورة الشياح، أكبر أحياء حمص. لم يبق من هذا الحي الذي دمرته الحرب المجنونة إلا القليل القليل، وتشرد أهله في جميع أنحاء الوطن وخارجه. نزح جمال إلى دمشق واستأجر منزلاً صغيراً بما أدخره من عمله في معمل الخياطة، الذي كان يملكه قبل الدمار الشامل الذي ألم بالمعمل. سكن في حي ركن الدين، وبقي من دون عمل لمدة سنتين، قبل أن يحوّل سيارته الفولز فاكن إلى ورشة خياطة. ثبّت السيارة في إحدى ساحات الحي، ووضع فيها كل العدة التي يحتاجها لتصليح ما يلزم من ثياب. يتعامل معه أهل الحي اليوم بثقة، فيلجؤون إليه لتصليح ثيابهم أو لخياطة بعضها. ما ينغص على جمال حياته، إضافة إلى الحرب والتشرد، هو رعايته لشابين مصابين بضمور عضلي. لم يجد سبيلاً لمساعدته في علاجهما، وكلاهما يحتاجان إلى أدوية وكراسٍ خاصة، ودخله لا يكفي إلا لرد العوز من طعام وسكن. سيارة جمال ليست الوحيدة في الحي، فبجانب ورشته سيارات أو ورشات أخرى لتصليح جميع أنواع الريسيفرات والدشات المركزية، وأخرى لتمديد الكهرباء. وكأن المكان تحول إلى سوق للمهن اليدوية.من حلب يأتي خالي الوفاض
ريمون، رجل أربعيني متزوج ولديه ثلاثة أبناء. كان يعمل في إحدى شركات القطاع الخاص في حلب براتب معقول يساعده على المعيشة الكريمة. حين تم الاستيلاء على شركته وبيعت معداتها إلى دولة مجاورة، كانت المنطقة التي يسكنها مشتعلة، فأجبر على مغادرة منزله، الذي لا يملك سواه، ولا يعرف عنه شيئاً حتى الآن. اختار إحدى قرى محافظة حماه، التي يسكن فيها أقرباء زوجته، فسكن فيها. وباعت زوجته بعضاً من الذهب ما ساعده على فتح “بسطة” صغيرة، تدر عليه قليلاً من المال، إضافة لما يأتيه من معونات تقدمها جمعية خيرية في القرية. يعتبر أن الدراسة أهم شيء بالنسبة لأولاده، فهي الضمانة الوحيدة لمستقبلهم مهما كانت الظروف. وكل ما يتمناه، هو أن يعود إلى منزله إن كان ما زال موجوداً. وإن هدم، فسيعمل على ترميم ما يستطيع، لأن البيت هو الأمان والذكريات والصداقات.نساء عدن إلى الصفر
عبير (40 عاماً)، نزحت من حلب ولجأت إلى قريتها الصغيرة “البيضا”، من دون أن تأخذ غير الملابس التي كانت ترتديها. لم تتمكن من إيجاد أي عمل سوى تنظيف البيوت. تقول: "في البداية تحفظت كثيراً قبل البدء بالعمل، خصوصاً أنني بين أهلي وناسي كما يقال. بعض إخوتي يسكنون في القرية نفسها، وكنت أقول لنفسي، لا يجوز أن أقوم بعمل يُخجِل إخوتي. لكن حين كنت أنام من دون عشاء لا أحد يتذكرني، وحين أحتاج إلى قطعة ملابس لا أجد أحداً. فلم يكن أمامي إلا هذا العمل لأعيش". وتضيف: "استطعت أن أرتب وضعي ووضع أبنائي الأربعة دون أن أضطر للتعرض للذل". المهندسة المدنية هناء، 45 سنة، توفي زوجها وبقيت مع ابنها البالغ من العمر 14 عاماً، تقول: "بعد أن فقدنا كل ما نملك في حمص، المنزل والمكتب، شعرت بأنني عدت إلى نقطة الصفر. كل ما بنيناه ذهب في غفلة. فسألت نفسي ماذا علي أن أفعل، وكيف أبدأ من جديد؟ انتقلت للعيش في قرية زوجي التابعة لمحافظة حمص. والعمل في الهندسة لا يجدي في القرية. لذا كان علي أن أختار عملاً آخر، وهذا ما حصل، قررت أن أصبح مدربة رياضة، ففي القرية هذه الخدمة غير متوفرة. تدربت أولاً حتى أتقنت العمل، ولحسن حظي أن في جمعية القرية صالة سمحوا لي باستخدامها مقابل نسبة من المردود". وتضيف: "الآن أشعر أنني عدت مرة أخرى لإنسانيتي وأستطيع تأمين الحد الأدنى لابني، ليكمل طريقه في الحياة. أطمح أن أتابع مشواري ليكون عندي نادٍ خاص وهذا ما أسعى إليه". ديانا (33 سنة) مساعدة مهندس حلبية، متزوجة ولديها 3 أولاد. انتقلت إلى دمشق مع أسرتها. زوجها يعمل موظفاً، لكن غلاء المعيشة في دمشق يستنفد راتبه، ويجعله غير كاف. خصوصاً أنها في دمشق استأجرت منزلاً، بينما كانت تملك واحداً في حلب. قررت ديانا أن تساعد زوجها، فلم تجد أمامها سبيلاً غير الخضوع لدورات طبخ، فتعلمت صناعة الحلويات بأنواعها، وأعلنت عن منتجاتها من خلال وسائل عدة. توضح ديانا: "لا أدري إن كان خياري لهذا النوع من الأعمال صحيحاً، فعلى الرغم من عنايتي الشديدة باختيار المواد، وبالرغم من الشهادات الإيجابية التي أسمعها حول مذاق منتجاتي، فالبيع ليس كثيراً. أعتقد أن الغلاء وتدني مستوى المعيشة يجعلان من منتجاتي كماليات غير ضرورية إلا في المناسبات". هؤلاء الأشخاص الذين استعرضنا قصصهم، هم عينة من النازحين المنسيين في الداخل السوري. فلا منظمات دولية ولا حكومة تلتفت إليهم، وهم متروكون لمصيرهم المجهول.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...