هذه الرواية لا تسلم إليك نفسها بسهولة! تدرك منذ الكلمة الأولى أنها ساحرة فتصبر على تدلّلها. ماكرةٌ تعرف أنك ستتعب معها، فتغريك بين الحين والآخر بالكشف عن مفاتنها المخبأة. لاهيةٌ، عابثةٌ، لعوب. وفي الوقت نفسه: رصينةٌ رزينة. بطلها حيوانٌ يعرّي الإنسان ويفضحه... كيف يمكن؟ إنه الخيال حين يكون إلهاً، والحكاية حين تكون مغامرةً معجونةً بخليطٍ من الاقتدار والإبداع!
يكتب أحمد المديني في روايته الأخيرة "ممر الصفصاف" سيرة حيٍّ جديد يبدأ بالظهور والتشكّل في مدينة الرباط، يتم إنشاؤه بعيداً عن ضجيج المدن الكبيرة. في هذا الحي، وتحديداً في "ممر الصفصاف" ثمة شخص غامض يعيش في أحد شقق بناء "السعادة"، يخرج كل يوم صباحاً ليركض في خط سيرٍ ثابت لا يتغير.
في أحد الصباحات تشتبك عيناه بعيني كلب بائس شريد، في نظرة محمّلة بالكثير من المعاني والأحاسيس التي ينقلها الكلب إليه، وبما أن "كل شيء يبدأ من النظرة، أو من نظرة" فستلاحقه هذه النظرة في صحوه ومنامه، إلى أن يقرر كتابة معاناة هذا الكائن، متراجعاً عن قسمه في أن يكفّ عن الكتابة.
"في هذا اليوم بالذات قرر أن يشرع في كتابة الرواية الجديدة التي تنغل في مخه منذ أشهر، وبها سيحنث، وسيدفع كفارة بعد أن أقسم أن "رجال ظهر المهراز" ستكون روايته الأخيرة. لا مجال للعبور. تخاطبه العينان المصوبتان إليه بداية، ثم يتخيلهما تناشدانه أن توقف، إنهِ هرولتك، ولو مؤقتاً، لتنظر إلي، تتأمل وضعي، أوووف، لا أطالبك بالكتابة، لا أريد أن أعرّضك للسخرية، فأنت تعيش في مجتمع بني آدم فيه مُهان، فكيف بالكلاب؟".
يتخذ الروائي إذاً من الكلب "جاك" بطلاً لروايته التي يحكي فيها عن مدينةٍ ضاقت بأبنائها الفقراء فطردتهم وشتّتتهم. في "دوار ادليم"، حيث تقيم مجموعة من الناس، تأتي أوامر "المخزن" بإفراغ الأرض كي يقيم عليها مشاريعه. وبما أن القاطنين فيها لا يملكون مكاناً آخر يذهبون إليه، فإنهم يعتصمون في خيمة كبيرة يعدّونها لهذا الغرض، رافعين لافتة عليها عبارات الولاء للملك طالبين الإنصاف منه لتبقى الأرض لأصحابها المقيمين فيها، مما يدفع بـ"المخزن" للجوء إلى القوة والعنف لإجلائهم. "نزلوا من جميع الجهات، وتفرقوا، مجموعة هاجمت الخيمة، من ينزع الأوتاد، من يرمي الأواني والحصر، من يمزق أطرافها، ولما تهاوت أشعلوا فيها النار، (...) وبعدها عبروا إلينا حاملين العصي والبنادق كأنهم في حرب، ونزلوا يا سيدي يخبطون، لا يفرقون بين الرأس والظهر والأرجل".
يصوّر الكاتب على امتداد الرواية سلطة "المخزن"، وهي أجهزة الأمن والمخابرات في المغرب، وكيف أن أول الأبنية التي يبدأ بناؤها في الحي الجديد هو بناء خاص بهم، إذ "لا يهم أن تتوفر للحي المدارس والسوق البلدي والمستشفى وأي منشأة حيوية أخرى، هذه المؤسسة أهم منشأة في المدينة، هي وأخواتها". هكذا، يصف الكاتب عمل هذه المؤسسات المكلفة بالاستبداد وحشر البشر في المعتقلات،
مؤسسات متعطشة لاضطهاد الآخرين والتنكيل بهم. هذا هو واجبهم الذي يؤدونه بإخلاص، يتدخلون في حياة البشر، يزرعون مخبريهم في كل مكان، يستعينون بنواطير وحرس الأبنية، كي ينقلوا لهم أخبار الساكنين، يهددونهم: "عليكم أن تعرفوا النملة من أين تبول وإلا استبدلناكم". لا يجرؤ أحدٌ على أن يتجاسر عليهم، فهم "الشرع" والقانون في بلادٍ محكومة بالخوف والرعب.
يروي الكاتب كيف بدأ يتشكّل الحي الجديد، يتنامى عمرانه، ويزداد الساكنون فيه، ثم يُبنى ثلاثة مساجد في حيٍّ صغير عدد سكانه لا يحتاج أكثر من مسجد واحد، في حين أن الحيّ ما زال يفتقد الكثير من المنشآت الأخرى.
ينتقد الروائي مظاهر التديّن الزائف والتبتّل المصطنع، فاضحاً التجارة بالدين، فبناء مسجد يضمن للمتبرع بيتاً في الجنة، بينما بناء مدرسة أو مشفى أو دار للعجزة لا يضمن شيئاً، وكأن الأمر "مباراة مفتوحة للتسابق على الجنة".
يكون "جاك" الكلب القادم من إحدى القرى البعيدة والذي يستقر في هذا الحي، شاهداً على ما يجري فيه، بعد أن تعطيه الرواية بعداً إنسانياً وتجعله أحد أبطالها. يكون هذا الكلب صديق "غانم" ساكن إحدى شقق بناء السعادة، وهو الذي ابتعد عن مصادقة البشر والاختلاط بهم، بعد أن رأى الزيف والتديّن الكاذب، وكيف أن أصحاب هذا التديّن لا يتورعون عن القيام بأي سلوك شائن ما دامت فيه مصلحتهم، يغشون ويسرقون تعب غيرهم. "أنت عندي أشرف من بو جمعة، ومن مول البركة الدجال، من جيران متكومين على مكرهم وأخلاقهم المغشوشة، بل أصفى سريرة من خطيب يوم الجمعة (...) أنت عندهم مخلوق نجس، وعندي أنك أطهر من كثير أنا أدرى بنجاستهم".
تلعب الرواية بين عالمي الواقع والخيال، توهم القارئ أن "غانم" هو الكاتب، ثم يتدخل المديني في النص، ليحاور "غانم" ويطلب منه الإذن في أن يعطي بطولة الرواية للكلب. تستمر اللعبة وتتأرجح الرواية بين العالمين. لكن "المخزن" المسؤول عن الحقيقة والخيال أيضاً، عن الصحو والمنام، يكشف تلك اللعبة، يتهم "غانم" أنه ينتحل اسم "المديني"، وأنه يتخيّل أشياء يصدّقها ويعتبرها الحقيقة، ومنها مثلاً أنه لا وجود في كل الرباط لمكان اسمه "ممر الصفصاف"، فيمنعونه من العودة إليه، ومن استعادة مخطوط الرواية. إنه الاستبداد حين يطغى... لا يكتفي بتشويه الواقع فقط، بل يخرّب الخيال أيضاً!
أحمد المديني كاتب مغربي من مواليد 1947. حاصل على دكتوراة الدولة من جامعة السوربون في الآداب والعلوم الإنسانية. يعمل برتبة أستاذ في مجال التعليم العالي. حصل على جائزة المغرب الكبرى للكتاب عام 2006 في فرع النقد والدراسات الأدبية، وعلى الجائزة نفسها عام 2009 في فرع السرديات (الرواية والقصة). له عدد كبير من المؤلفات في القصة القصيرة والشعر وأدب الرحلات والدراسات النقدية. وله 14 رواية، منها: "وردة للوقت المغربي"، "حكاية وهم"، "مدينة براقش"، "رجال ظهر المهراز"، "نصيبي من باريس" المرشحة ضمن القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد فرع الآداب لعام 2014-2015، و"ممر الصفصاف" المرشحة ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر 2015.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...