الدموع شأن حميمي. تُذرف في السرّ. فضحها يُعرّض صاحبها للاتهام بالهشاشة والحساسية المفرطة، وكلاهما دليل ضعف. في السرديات التاريخية، في القصص والأفلام والأغنيات، اعتبر "الدمع السخيّ” حكراً على النساء، أما دمع الرجال "في الحوادث غالي"، ولا يجوز ذرفه تحت طائلة "فقدان الرجولة".
مع السياسيين، خرجت الدموع من تلك المعادلة الذكورية، لتصبح سلاحاً فعالاً يحقق نتائج مبهرة، لا سيما أمام المآسي الإنسانية وفي حالات التوتر الشعبي. الدموع حولت السياسي من مجرد اسم وبدلة أنيقة، من مجرد وجه متجهم وقبضة حديدية، إلى إنسان. مشاركة هذا الفعل الحميمي في الفضاء العام، دفع الأخير إلى التماهي مع السياسي وفي حالات كثيرة كانت المفاجأة. تحولت الدموع إلى عنصر قوة لصاحبها.
في حالات الفضائح، قد يغفر الرأي العام أخطاء السياسي، الذي أظهرته الدموع (للمرة الأولى) إنساناً، والإنسان يخطئ. وفي حالات الحرب، تُشعر الدموع الرأي العام بأن المسؤولين عنه يتألمون مثله تماماً، وهنا تنتفي النظرية السائدة لدى الفقير بأنه يدفع ثمن الصراعات وحيداً.
في إطار مشروع جديد، يحمل عنوان "أناس دامعون، أناس مسلحون"، يسلّط الفيلسوف الفرنسي جورج ديدي هوبرمان الضوء على قوة الدموع وسحرها، عندما يتشارك المرء هذه "الحميمية الخالصة" مع الآخر، لتظهر الدموع رباطة جأشه أمام المصائب الكبرى. والدموع غالباً ستترك صدى بالغ الأهمية لا سيما في السياسة.
يميّز هوبرمان، مستنداً إلى كتب الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، بين القوة والسلطة لدى من يبكون. هم قد يفتقرون للسلطة في تغيير الوضع الذي يبكيهم، لكن "حبات الكريستال المتلألئة على الخدين" تعطيهم قوة. البكاء يعني المعاناة، لكنه دليل قوة سياسية يتكئ عليها من يظهرون في حالة متقدمة من قلة الحيلة.
دموع السياسيين: بروباغندا أم عاطفة صادقة؟
تشكل الدموع في السياسة مرحلة متقدمة من البروباغندا التي باتت شائعة لتحسين صورة السياسي، سواء بإظهاره يلعب الموسيقى أو يمازح أطفاله أو يتناول أكلته المفضلة. مع العلم أنه في حالات أخرى، تكون دموع بعض السياسيين عفوية صادقة. وتحفظ ذاكرة الناس مواقف كثيرة بكى فيها الساسة، بعضها لامست مشاعر الرأي العام العالمي، وبعضها وصفت بدموع التماسيح.
لكن الدموع في السياسة العربية تبقى أمراً شائكاً، تختلط فيه الموروثات الاجتماعية بالعواطف، وتؤثر فيه حالة انعدام الثقة التاريخية بين السياسي العربي والمواطن.
تسبب السياسيون ببكاء عائلات كثيرة، حتى اعتادت العين صور الأمهات والأطفال والشيوخ بعيون باكية. لكن عندما يأتي دورهم بالبكاء يأخذ المشهد منحى آخر. دموع "الضعيف" عادية، لكن دموع "القوي" ليست كذلك.
صدام حسين يبكي
بكى الرئيس العراقي الراحل صدام حسين وهو يتحدث عن الشهداء والأسرى الذين سقطوا في الحرب مع إيران، بكى ثم أخرج المنديل من جيبه ليمسح دمعه علانية، يتوقف عن الكلام قليلاً، ويعود لإكمال خطابه بصوت مرتجف.
جمال عبد الناصر يبكي
حسن نصرالله يبكي
يحفظ التاريح الديني لعدد من الأنبياء والأئمة بكاءهم كفعل تقرّب إلى الله، وهو أمر مرغوب وفيه "أجر عظيم"، حتى أصبح بكاء الزعماء أمام مآسي التاريخ التي لحقت بأئمتهم وقديسيهم فعلاً سياسياً يعطيهم القوة أمام "الأعداء". كما فعل الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله في مناسبات عدة كإحياء ذكرى عاشوراء والحديث عن جرحى الحرب.
فؤاد السنيورة يبكي
انهمرت دموع السنيورة وهو يلقي كلمة في القمة العربية الطارئة أثناء حرب تموز في العام 2006. وبعدما أعلن سقوط 40 مدنياً ضحايا الغارة الإسرائيلية في جنوب لبنان، انفجر باكياً وهو يصرخ "لبنان باق باق باق". تعاطف كثيرون مع السنيورة، بينما تعرض في المقابل للاستهزاء بسبب ما وصفه المنتقدون بـ"دموع التماسيح".
حسني مبارك يبكي
سنوات طويلة مرت بين تلك الدموع التي ذرفها مبارك عندما كان ضابطاً يتحدث بفخر عن معركة سيناء، والدموع بعد وصوله لحضور جلسة محاكمته في قضية قتل المتظاهرين إبان ثورة 25 يناير، والمعروفة إعلامياً بقضية "محاكمة القرن" وهو بالبزة الزرقاء خلف القضبان. وقد اعتبرت الدموع المرافقة للكلام العاطفي بعد ثورات "الربيع العربي" سلاحاً بيد الرؤساء المطالَبين بالتنحي، واستحضروا صورة "الأب" في قلوب مؤيديهم.
ياسر عرفات يبكي
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...