تتجلى العلاقة بين الفن والدين في أكثر من ملمح ومناسبة، لعل أبرزها موسم الحج، إذ يستخدم المصريون في قرى مصر الغناء للتعبير عن فرحهم وشوقهم لزيارة الأراضي المقدسة، وهذا ما يعرف بـ"التحنين" نسبة إلى الحنين لأداء هذه الشُعيرة. في ما يلي نستعرض أهم أغاني "التحنين" والمراحل التاريخية التي مرت بها.
أغاني الحج هي نمط من الأغاني الشعبية الذائعة في القرى، تؤديها الجماعات احتفالاً بخروج بعض رجالها ونسائها لأداء فريضة الحج. في كتابه "أشكال الغناء الشعبي في الشرقية"، قال حامد أنور الباحث في علم التراث، إن أداء مثل هذه الأهازيج أو الأغاني، كان جزءاً من احتفالية كبرى تقام بهذه المناسبة، وتشكل طقساً شعبياً موازياً ومعبّراً عن فرحة جماعية بأداء هذه الشعيرة الإسلامية المقدسة.
لا يمكن الوقوف بشكل محدد على تاريخ بدء ظهور أغاني التحنين في مصر. قال أحمد أبو خنيجر الباحث فى التراث لرصيف22 إن هذه الأغاني تنتمي إلى التراث الشفهي غير المدون، من هنا تكمن الصعوبة في تأريخها.
المصريون بارعون في تحويل المعتقدات الدينية إلى طقوس وأغانٍ واحتفالات، فكانوا يغنون للآلهة في مصر الفرعونية، ثم امتد هذا الأمر للعهد القبطي، كذلك بعد دخول الإسلام، إلا أن الأمر استلزم وقتاً كبيراً حتى تتبلور هذه الطقوس، وتأخذ أشكالها النهائية، وأبرزها أغاني الحجيج، بحسب أبو خنيجر.
ويوضح أبو خنيجر أن التصوف ساهم في انتشار هذا النوع من الغناء الشعبي، فبدأ التصوف مع ذي النون المصري في القرن الثالث الهجري، ووصل إلى ذروته في القرن السابع الهجري، الذي سمي عصر التصوف المصري، بعد هجرة أقطاب الصوفية الكبار من المغرب والعراق إلى مصر، مثل السيد البدوي والحسن الشاذلي والإمام الشافعي وغيرهم. خلال هذا القرن ظهرت الطرق الصوفية التي كانت تنظم لأتباعها رحلات الحج والعمرة، وكانت تستخدم الغناء في الاحتفاء بالحجاج، ما ساهم في تطور "التحنين" في ذلك الوقت.
أغاني التحنين لا يرددها الآن إلا أشخاص نادرون. أرجع أبو خنيجر ذلك إلى أن الطبقات الفقيرة والشعبية كانت ترددها، وبعد ارتفاع أسعار الحج اتجهت هذه الطبقات إلى العمرة بدلاً من الحج، لأنها أقل كلفة. وساهم ذلك في قلة ترديد هذه الأغاني حتى باتت مهددة بالاندثار.
ويؤكد أنور في كتابه أن هناك طقوساً تُتبع في هذه المناسبة، مثل إقامة ليالي السمر في منزل الحاج قبيل سفره، إذ يتوافد الجيران والأصدقاء وتنطلق الأغنيات التي تعبّر عن مشاعر الشوق لهذه الشعيرة.
المصريون بارعون في تحويل المعتقدات الدينية إلى طقوس وأغانٍ واحتفالات... أغاني الشوق إلى الحج
هكذا كان المصريون يعبرون عن فرحهم وشوقهم لزيارة الأراضي المقدسة...وفي يوم السفر، يخرج الحاج أو مجموعة الحجاج المسافرين في موكب عظيم بصحبة الأهل والأصدقاء، تتبعه الدفوف والأغنيات، استعرض الباحث بعضاً منها في كتابه. هنالك أغنيات تعبّر عن فرحة أهالي الحاج وذويه بأداء مناسك هذه الشعيرة، منها هذه المقاطع: وركبوا القطار خدهم يومها وطار على النبي المختار لأرض الحبيب وركبوا البابور (الوسيلة التى تقل الحاج للأراضي المقدسة وغالباً ما تكون الباخرة) لبهي النور وقلبهم مسرور رايحين للحبيب * * * * يا رب توعدنا ونحج بيت الله ونحج بيت الله ونزور سيدنا النبي اللي عليه النور آن الأوان صفر يا بابور ونحج وننول فرحتنا *** يا رايحين للنبي خدوني خدام ليكو أشاهد نور النبي وابقى من مراعيكو *** نبينا يا نبينا يا داخل الجنة بينا نبينا من جماله جريد النخل طاطى له يا هنا من راح وزاره * * * رايحة فين يا حاجة يا ام الشال قطيفة رايحة أزور النبي محمد والكعبة الشريفة * * * يا فاطمة يا بنت التهامي افتحي لي الباب يا فاطمة أبوكي دعاني ويشير الكاتب إلى أغنية أخرى، يقول معناها إن أداء طقوس الحج وزيارة قبر الرسول دواء لكل العلل والأمراض: بالليل ما بنامشي والنوم جفاني وحتى الأكل ما باكلشي بقالي مدة نايم على فرشي جابو الطبيب يكشف عليّ قلت له إيه يا طبيب اللي فيّ؟ واللي توصفه يمشي قال لي دواك تزور النبي قلت أروح على القدم أمشي وسبت بلادي وولادي وطلعت ع الهاشمي القرشي لقيت الروضة الشريفة جمالها ما يوصفشي ياللي معاك المال قوم يلا ما تخفشي وشرح حامد أنور لرصيف22 أن عامة المصريين اختزلوا مناسك الحج في زيارة قبر الرسول، لأنهم كانوا يرون أن هذه الشعيرة لا تتم إلا بزيارته، من ثم سمّوا الحج في أغانيهم "زيارة النبي"، أو حتى "زيارة قبر الرسول". كان الحجاج في زياراتهم لبيت الله الحرام، يأخذون بعضاً من الزروع "القمح والذرة"، لإطعام الحمام الموجود في ساحة المسجد الحرام وخارجه، وهي عادة قديمة اعتادها الحجيج في غالبية قرى مصر. وسرعان ما تلاشت تدريجياً، وهذا ما تعبر عنه إحدى الأغنيات بهذه الكلمات. كل يا حمام الحما عقبال ولادنا ييجوا هنا وتشير أغنية أخرى إلى الأضحية التي تمثل أحد مناسك الحج، وتدعو الآخرين ممن لم يؤدوا هذه الفريضة إلى أدائها، عندما تسمح الظروف المالية. حاجج يا حاجج ريحتك روايح من دم الدبايح عقبالكوا يا حبايب لما تحجوا زينا والجو يبقى رايق والجيوب متحينة كما يدعو المغنون لأهل الحجيج وذويهم بالعودة المأمونة بعد قضاء المناسك وزيارة قبر الرسول. يا نبي ياللي ناديته رجعه سليم لبيته وتشير أغنية أخرى إلى ترك الحاج للضغائن والفتن بمجرد دخوله الأراضي المقدسة: مدينتي ومداين خشينا ع الحبيب طفينا الفتاين وتتغزل أغنية أخرى بماء زمزم وبركتها بهذه الكلمات: حلاوتك يا زمزم ميتك شربات انشالله يشربوا منك كل الحيات.
التحنين السياسي
أغاني التحنين صبغت في بعض العصور بصبغة سياسية، خصوصاً في عصر المماليك، الذي عانى فيه المصريون من ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة. ويشير حلمي إلى أن أبناء الشعب المصري لم يتركوا فرصة لذهاب أو عودة قوافل المحمل المصري، إلا واستقبلوا أمراء المحمل بما يناسب ظلمهم الذي أثقل كاهلهم. وكانت السلطة في مصر ترسل كل سنة كسوة الكعبة التي تغطّي الكعبة إلى مكّة، منذ أيام الفاطميين. بل كانت ترفض منافستها على هذا الشرف. ولم تنقطع مصر عن ذلك إلا بسبب بعض الظروف، خلال فترة الدولة السعودية الأولى، ثم في بدايات القرن الماضي، إلى أن توقّفت عن ذلك عام 1962 بسبب خلافات سياسية مع السلطة السعودية. ودلّل حلمي على ذلك بيوم استقبال المحمل العائد من الأراضي الحجازية في ربيع الأول سنة 909 هجرياً، إذ زفوا أمير المحمل "الأتابكي قيت الرجعي" قائلين: حججت البيت ليتك لا تحج فظلمك قد فشى في الناس ضجوا حججت وكان فوقك حمل ذنب رجعت وفوق ذاك الحمل خرج ويشير حلمي في كتابه إلى أنه بعد نحو أربعة أشهر من تلك الحادثة استقبل أبناء الشعب ذهاب محمل السلطان الغوري في طوافه الرجبي، قبل الذهاب لأداء العمرة بأغنية تحمل مضموناً عميقاً، تكشف حب المصريين وتقديرهم لهذه الشعيرة، وما ارتبط بها من طقوس احتفالية من خلال التأكيد أنهم مستعدون لبيع أي شيء لرؤية المحمل، وهذه الأغنية تقول: بيع اللحاف والطراحة حتى أرى ذي الرماحة بيع اللحاف ذي المحمل حتى أرى ذا المحمل وفي عصر محمد علي كان غناء العامة وأناشيدهم في موكب المحمل المصري عنصراً هاماً في الاحتفال بهذه المناسبة، وكانت منهم طائفة "الدراويش" الذين كانوا يحركون رؤوسهم من جانب إلى آخر، ويرددون اسم الله وكان من هؤلاء عدة حمالين وكناسين وغيرهم، وكان بعضهم يصيح "عرفات.. يا الله" و"الله الله... بالسلامة". بحسب ما جاء في كتاب "كسوة الكعبة". وفى مطلع القرن العشرين، أوضح "حلمي" أن الحجاج المصريين كان يقابلهم أطفال الحجاز، الذين كانوا يغنون لهم، على الرغم من صغر سنهم، أغانيهم الشعبية باللهجة المصرية، فرحاً بالكسوة التي يحملونها وبالهدايا. فيقولون: يا حاج سلامات يا فندي سلامات يا بويا سلامات ان شاء الله سلامات ان شاء الله عرفات ان شاء الله بركات وأشار حلمي في كتابه إلى أنه خلال العقود الأولى من القرن العشرين، كان وداع كسوة الكعبة (التي كانت ترسلها مصر إلى بلاد الحجاز) يتم في حفل يتبارى فيه كبار المطربين والمنشدين فى المدائح النبوية. وكان فارس هذا الميدان المرحوم الشيخ يوسف المنيلاوي، ثم الشيخ علي محمود. وكانت للحج أغنية شعبية مشهورة ترددها السيدات في أداء جماعي عذب الترانيم في وداع الحجاج وفي استقبالهم. كما كانت ترددها السيدات المسافرات للحج، وهن يقطعن الرحلة على ظهور الجمال من جدة إلى مكة، ومن مكة إلى المدينة المنورة. وكان من العادة أن تبدأ سيدتان الغناء بكلمة "يا هنا اللي انوعد" فترد الجماعة "يا هناه.. يا هناه اللي انوعد". وهكذا يجري الترديد في آخر كل مقطع من مقاطع الأغنية على النحو التالي: أنا أمدح محمد والحسن والحسين والقاسم أحمد بلغ العاشقين يا رب زيارة محمد مديح باشتياق أنا ما امدح إلا النبي يا هنا اللي انوعد... يا هناه وأشار الكتاب إلى كلمات أغنية شعبية أخرى، كانت تُردد أثناء رحلة المحمل وتأخذ كلماتها ونغماتها طابع حداء الإبل في الصحراء، في قصر الجملة الغنائية المرددة، والتي تتناسب وحركة اهتزاز راكب سفينة الصحراء، وشجن اللحن نفسه. بعيدة يا بعيدة يا طريق النبي بعيدة بعيدة بعيدة بعيدة... وإن عطاني ربي لأروحلك سعيدة ولا مال معايا خاطر أزور النبي ولا معايا مال ولا مال معايا يا كريم يا حنون تحنن يا رب يا نخل مكة يا طويل يا عالي والتمر منك دوا للمبالي يا بير زمزم سلبك حرير (السلب هو الحبل. والمعنى أنه لا توجد مشقة في نزول وصعود الدلو) والشربة منك دوا للعليلي يا بير زمزم سلبك سلامة والشربة منك دوا للمسافة ومن الاغاني الشعبية الحديثة نسبياً، التي كانت تردد في موكب المحمل أغنية "وديني يا دليل وديني". وديني يا دليل وديني ع النبي أشوفه بعيني النبي أهو عدي وفات على منى وجبل عرفات.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.