ترصد "إيمان حميدان" في روايتها الرابعة "خمسون غراماً من الجنة" آثار الحرب والعنف والاستبداد على حيوات الناس وعلاقاتهم ومصائرهم، من خلال حكاية تجري بين زمنين مختلفين تفصل بينهما سبعة عشر عاماً.
الزمن الثاني (اللاحق) هو عام 1994. بيروت ما زالت تحت وطأة الحرب المنتهية تواً، ومظاهر الحرب بادية في كل مكان، وعلى كل الوجوه. في هذا الجو المشحون والمتوتر تعود "مايا" من باريس رفقة زوجها المصاب بالسرطان، كي تدفنه في قريته بعد وفاته، وكي تعمل في فيلم عن إعادة إعمار بيروت.
أثناء عملها في هذا الفيلم تدخل أحد البيوت المهجورة وتعثر على صور ورسائل شخصية ودفتر يوميات، تعود إلى أعوام (1975-1978)، فلا تستطيع منع نفسها من أخذها، وهي المغرمة بحكايات الناس الضائعة، والذين ماتوا بطرق غامضة. رويداً رويداً تتشكّل أمامها قصة عشق كبيرة بين شابين: "نورا" الصحفية الهاربة من دمشق إلى بيروت، و"كمال" الناشط التركي الذي التقته بسبب تحقيق كانت تجريه عن المدن المتوسطية ومن بينها اسطنبول، فولدت بينهما شرارة الحب. "نورا... أسبوعان قضيناهما معاً في اسطنبول غيّرا حياتي. هل هذه هي السعادة؟ هل هذا هو الحب؟ لم أعرفه بعد رغم سنواتي التي تخطت الثلاثين. كأنني كنت أنتظرك، أنت التي من عمر الأرض. حين سافرتِ وجدت نفسي وحيداً، كذلك الشعور الذي ملأني في اليوم الأول من ذهابي إلى المدرسة، الشعور بالتخلي، الوحدة التي عليّ مواجهتها. أن أتذكر كل ذلك في عمري الآن، وبعد سفرك، يسمح لي أن أرى إلى أي درجة وجودك القصير هنا ربطني بك".
تروي الكاتبة حكايات النساء المقهورات، مسلّطةً الضوء على معاناة المرأة في مجتمعاتنا، فهي التي تتحمّل وزر العنف والحرب والاستبداد، رغم أنها لا تشارك في صنع أيٍّ منها. يحضر ذلك في أكثر من مكان، منها حكاية انتحار "هناء"، التي كتبتها "نورا" ونشرتها بعد هربها إلى بيروت كي تفضح الظلم، ولذا استطاعوا الوصول إليها وقتلها، ومنها حكاية "صباح" المرأة التي قاد بحث "مايا" عن خيوط الحكاية إليها، لتروي الأخيرة لها قصتها المؤلمة، منذ أن أحبت رجلاً وهربت معه ليومين، مروراً بتزويجها من ابن عمتها لدرء الفضيحة، وقدومها إلى لبنان، وانتهاءً بزوجها المفقود أثناء الحرب، والذي ما زالت تنتظره رغم كل تلك السنوات التي مرت. وكأن قدر النساء هو الانتظار وتجرّع كأس الألم، "تخلو البلدة معظم فصول السنة من رجالها، يسافرون إلى المدن للعمل ويتركون النساء والأطفال في البيوت. يعودون نهاية كل فصل ليومين أو ثلاثة ثم يرحلون من جديد، تبدأ بعدها مواعيد عودتهم بالتباعد، وأحياناً لا يعودون طوال السنة. كنّ يبدون من بعيد كمجسمات مكررة لبينيلوب. نساء ينتظرن عودة الرجال من أعمالهم، أو عودة المقاتلين من الحرب، إلا أن الحرب تأتي وتغيب، وهن ينتظرن بملابسهن الداكنة".
تصوّر الرواية أجواء بيروت بعد انتهاء الحرب مباشرة، المدينة تحاول استعادة حياتها، ورشات إعادة البناء في كل مكان، الناس يحاولون أيضاً استعادة حيواتهم، لكن "الوجوه تحمل ذاكرة ألم يصعب محوه". كما تحضر في الرواية إشارات عديدة إلى ما ارتكبه الجيش السوري في المدينة المنهكة، وكيف أن المخابرات السورية كان لها أذرع أخطبوط في التحكّم في كثير من الأمور هناك، ومن بينها قتل وتصفية المعارضين الذين هربوا إلى لبنان.
تتناسل حكايات عديدة داخل السرد، فلكل شخصية، حتى وإن كانت ثانوية، حكايتها المتشعبة، والتي تنسجها "حميدان" مع الحبكة الرئيسية، موزعةً أحداث حكايتها على عدة أمكنة، منها باريس وبيروت ودمشق واسطنبول وماردين، مستخدمةً في سردها عدة تقنيات كالرسائل، واليوميات، والتداعيات، والتذكّر، والفلاش باك. تبدأ روايتها بمشهدٍ تقتل فيه "نورا" وتوضع جثتها في انفجار كي تتم التغطية على جريمة القتل، وتنتقل في الفصول التالية إلى أحداث أخرى، لتعيدنا بعد منتصف الرواية إلى بدايتها، بعد أن يكون الزمنان قد التئما في شخصية "مايا" التي تنبش الماضي في محاولة لإحياء حكاية حب طمرت تحت ركام الحرب، حكاية حب كانت جنة لأبطالها، "وفي القاهرة، ذهبت إلى خان الخليلي. هناك رأيت عطاراً يبيع العطور بقوارير زجاجية هشة، شممت عطراً من قارورة صغيرة انعكست عليها ألوان قوس قزح، (...) فجأة سمعت العطار يسألني بالإنكليزية وبلكنة مصرية ظريفة: كم تريد يا سيدي؟ هل خمسون غراماً من الجنة تكفي؟ قال غراماً ولم يقل ملليمتراً... ماذا يهمّ، قلت في نفسي... يكفي أنه يعرض عليّ الجنة، وما يعرضه كثير عليّ يا حبيبتي... كثير... يكفيني غرام واحد من جنتنا معاً".
إيمان حميدان روائية وصحافية وباحثة لبنانية. تعلّم الكتابة الإبداعية في البرنامج العالمي للكتابة الإبداعية في جامعة إيوا بالولايات المتحدة الأميركية. شاركت في تأسيس نادي القلم اللبناني PEN.
لها أربع روايات: "باء مثل بيت، مثل بيروت"، "توت بري"، "حيوات أخرى"، و"خمسون غراماً من الجنة". وقد ترجمت رواياتها إلى الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والهولندية.
الناشر: دار الساقي/ بيروت
عدد الصفحات: 224
الطبعة الأولى: 2016
يمكن شراء الرواية من موقع النيل والفرات أو موقع متجر الكتب العربية جملون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com