قبل ثلاث سنوات زار جاد اسطنبول للمرة الأولى. السياحة كانت الغاية، لكن سحر المدينة دفعه إلى التفكير جدياً بالانتقال إليها والعيش فيها. الزيارة الثانية بعد عام ونصف العام كانت لاستكشاف مدى إمكانية إيجاد فرصة عمل هناك. أدرك سريعاً أن في البلاد حالة من الاكتفاء الذاتي، فبدأ بدراسة جدوى لمشروع مقهى ومطعم صغير في المدينة.
استند جاد في فكرته هذه على الرغم من تواضعها إلى أن المدينة باتت الوجهة العربية واللبنانية الأولى سياحياً، وعلى الرغم من أن فكرته لم تبصر النور بعد، إلا أنها باتت حلماً يراوده، ويسعى إلى تحقيقه، ليس بهدف تحقيق ثراء فاحش، يدرك أنه مستحيل تحقيقه في تركيا، بل نظراً إلى تعلقه بهذه المدينة "الكوزموبوليتية".
حالة جاد باتت نمطاً في لبنان. كثر زاروا تركيا وتحديداً اسطنبول، وتعلقوا بها، وبطبيعة الحياة فيها، وصخبها، يتحدثون عن أمل الانتقال والعيش فيها. بعضهم نجح فعلاً وانتقل اليها، وبعض حاول لكنه عاد من دون أن يتمكن من تأمين فرصة عمل لائقة، وبعض لا يزال يبحث عن أي فرصة.
قرب المسافة بين لبنان وتركيا لم يكن يوماً عاملاً دافعاً إلى الهجرة إليها. فضّل كثر أسواقاً أخرى، وأبعد، وأقل على صعيد الحضور الاقتصادي. لكن منذ اندلاع الأزمة في سوريا، بدأ اللبنانيون يكتشفون تركيا، وإن متأخرين، بعد أن سبقهم إليها كثر من جنسيات مختلفة، وبعد أن باتت في غضون العقدين المنصرمين، أحد أهم الاقتصادات الناشئة، محققة إكتفاءً ذاتياً يصعب خرقه.
وفي السنوات الأخيرة وتحديداً منذ الأزمة السورية، بدأ البعض في لبنان بالتفكير جدياً بالهجرة إلى تركيا، بحثاً عن عمل في الدرجة الأولى، أو لمحاولة استكشاف فرص الاستثمار في هذا البلد.
محاولات استثمارية
في المجال الاستثماري، يبدو لبنان حاضراً بقوة شكلاً، ذلك أن معظم هذه الاستثمارات رفدتها مؤسسات ضخمة، مثل دخول بنك "عودة" الشهير إلى السوق التركي في العام 2013، ومثل حضور آل الحريري القوي في قطاع الاتصالات، إضافة الى بعض شركات التأمين أو شركات بيع الألبسة الجاهزة. هذا الحضور القوي لا يعكس فعلياً الواقع اللبناني في تركيا، خصوصاً أن هذه الاستثمارات الضخمة لا تجذب اللبنانيين أو اليد العاملة اللبنانية إليها، في سوق تتوفر فيه اليد العاملة على مختلف المستويات والمؤهلات.
أما الاستثمارات اللبنانية الصغيرة، فتعاني من أزمة، خصوصاً أن عدداً من اللبنانيين حاول أن يستثمر لكنه فشل، كما يفيد بعض اللبنانيين في تركيا، نظراً إلى الواقع التنافسي الصعب في البلاد، وخصوصاً في اسطنبول.
ويقول هادي جعفر، الذي يحاول البدء بمشروع صغير في مجال التسويق والإعلانات، لرصيف22، إن الواقع الاستثماري صعب للغاية في المدينة، خصوصاً أن اللبنانيين اكتشفوا هذه البلاد متأخرين، بعد سنوات من استلام حزب "العدالة والتنمية" الحكم، وبعد أن حقق نهضة اقتصادية كبيرة، لم يفلح اللبنانيون في اقتناصها، أو على الأقل لم ينتبهوا لها، وبالتالي تأتي المحاولات اليوم في الوقت الضائع، ودونها تحديات كبيرة، وتحتاج إلى أفكار ابداعية، بما أن السوق بات مشبعاً.
إعلام بديل
وإن كان الحضور اللبناني على صعيد الاستثمارات الصغيرة خجولاً نسبياً، إلا أن أحد أهم القطاعات التي جذبت اللبنانيين، كان القطاع الإعلامي، خصوصاً أن تركيا تحولت في السنوات الست الأخيرة، إلى مركز اعلامي لعدد كبير من القنوات العربية العراقية والسورية والليبية والمصرية، إضافة إلى التلفزيون التركي الرسمي، بمحطته الناطقة باللغة العربية، تنفيذاً لسياسة "العودة إلى الشرق"، وبالتالي شكّل صعود هذا القطاع في تركيا بالتزامن مع الأزمة مع الدول الخليجية عامل جذب قوياً لعدد من اللبنانيين.
أعداد متزايدة من اللبنانيين يقررون الهجرة إلى تركيا، ما هي الأسباب؟
لبنانيون يبحثون عن الحرية في تركيا...
المذيع محمد الكردي (يعمل حالياً في شبكة الرائد الفضائية الليبية) اختار الانتقال قبل ثلاثة أعوام الى اسطنبول. عمل في عدد من قنوات التلفزة في المدينة، ويتحدث لرصيف22 عن حضور لبناني جيد في هذا القطاع، الذي يعتبر غير مستقر نظراً إلى الصعوبات التي يعاني منها، لكنه شخصياً اختار العمل هناك نظراً إلى أن الرواتب تفوق ما يقدم في لبنان.
عدم الاستقرار في هذا القطاع الذي يتحدث عنه الكردي، يعود إلى أسباب واضحة، بما أن أغلب هذه القنوات تستضيفها تركيا لأهداف سياسية، بوصفها معارضة، لكن أغلبها وعلى الرغم من الاحتضان التركي، لا تملك تراخيص رسمية، وبالتالي لا يوقع العاملون فيها أي عقود، ما يعرض حقوقهم للخطر، بإستثناء التلفزيون التركي الحكومي بالطبع.
أزمة سوريا
إلى جانب قطاع الإعلام الذي يحضر فيه عدد جيد من اللبنانيين، ثمة قطاع آخر يشكل عصباً رئيسياً للبنانيين، افتتح مع تصاعد الأزمة السورية، وبدأ تدفق اللاجئين إلى تركيا، إذ باتت مركزاً دولياً لعدد كبير من الجمعيات الدولية التي تعنى باللاجئين وبأوضاعهم.
شكل هذا الواقع فرصة للبنانيين، خصوصاً أنها تتطلب إدراكاً للواقع المشرقي، وكذلك للغة العربية، إضافة إلى اللغات الأجنبية. ويشير عدد من العاملين في هذا المجال (يرفضون الكشف عن أسمائهم نظراً إلى عملهم في مؤسسات دولية) لرصيف22 إلى أن وضعهم يختلف عن اللبنانيين الآخرين الذي يعملون في قطاع الإعلام أو في مجالات أخرى، خصوصاً أنهم يتمتعون بثبات وظيفي، ورواتب جيدة، أضعاف ما يمكن أن يتقاضوه في لبنان، إضافة إلى امتيازات مختلفة نظراً إلى طبيعة عملهم.
المنح واللجوء
وإن كان الحضور الأكبر للبنانيين في قطاع الإعلام والعمل في الجمعيات الدولية، إلا أن "عودة تركيا إلى الشرق" قبل أعوام، دفع الدولة التركية إلى التواصل بكثافة مع اللبنانيين من أصول تركية، إذ تشير أرقام متضاربة إلى آلاف من اللبنانيين من أصول تركية. ويذكر في هذا الإطار زيارة وزير الخارجية التركية أنذاك أحمد داوود أغلو إلى قرية الكواشرة (ناطقة باللغة التركية) قبل الأزمة السورية، ومنذ ذلك الوقت، بدأ كثر يحاولون العودة إلى تركيا، واستعادة الجنسية، وبالفعل بات عدد منهم يقيم في اسطنبول اليوم.
لكن التطورات السياسية مؤخراً، وخصوصاً بعد حادثة خطف طيارين تركيين في العام 2013، دفع الدولة التركية إلى فرملة نشاطاتها في لبنان، بعد أن مولت في الفترة السابقة مشاريع كبيرة أبرزها مستشفى مخصص للحروق في مدينة صيدا، وعدد من المشاريع في شمال لبنان وطرابلس. السياسة هذه نفسها سمحت بتقديم عشرات المنح السنوية لبعض الطلاب اللبنانيين، لمتابعة تحصيلهم العلمي في الجامعات التركية، وهم يشكلون اليوم جزءاً من الحضور اللبناني في هذه البلاد.
حريات ولجوء
عند الالتقاء بأي لبناني مقيم في تركيا أو زائر لها، يقود الحديث طوعاً إلى المجال المدني العلماني في البلاد، وخصوصاً في اسطنبول. يقول عدد من اللبنانيين أن هذا أحد أبرز الأسباب التي دفعت كثراً إلى الهجرة إليها، أو دفعت كثراً في لبنان في التفكير جدياً بالهجرة.
المفارقة أن عدداً من اللبنانيين في اسطنبول يقيمون هناك لأسباب متعلقة حصراً بالحريات على اختلافها. فالبعض قصد هذه البلاد نظراً إلى تهديدات أمنية وسياسية تعرض لها في لبنان، وأغلبهم من شمال لبنان، وبعض آخر قصدها نظراً إلى اضطهاد جندري، خصوصاً لدى المتحولين والمتحولات جنسياً، على أمل الانتقال لاحقاً إلى أحد البلاد الأوروبية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين