يطرح الكاتب الموريتاني "أحمد ولد الحافظ" في روايته الجديدة "عناقيد الرذيلة" قضيتين اثنتين، الأولى هي إشكالية الهوية للموريتانيين الذين عانوا ظلم العبودية بسبب لونهم، والثانية هي الرذائل التي يمارسها رجال الدين متلطين وراء الدين ومجيّرينه لخدمة أغراضهم الذاتية.
يشبك الكاتب هاتين القضيتين ضمن حبكة واحدة تتفرع إلى عدة أزمنة، إذ تبدأ الرواية مع الفتى "لمات ول بوذناب" الذي كان ينتظر نتائج البكالوريا بفارغ الصبر، لأن "ناسا" قررت تخصيص مقعد للدراسات الفضائية تمنحه للأول في شعبة الرياضيات في موريتانيا، لكن "لمات" لا يفوز بالمقعد الأول، بسبب مادة الفيزياء التي حصل فيها على علامة متدنية، وبعد سنة من هذه النتائج يتبيّن أن المصححين ظلموه حين لم يفهموا ما ذهب إليه في إجاباته، وأن هذه الإجابات تشكّل نظريات مركزية تمثل منعطفاً كبيراً في المعرفة الفيزيائية. هذا الاكتشاف يحصل بعد فوات الأوان، إذ إن "لمات" يعتزل الناس ويعتزل الكلام معهم، وتسوء حالته كثيراً، ثم يختفي بشكل غريب.
يريب هذا الاختفاء الغامض واحداً من أصدقائه المقرّبين، فيبدأ بنبش الماضي لاكتشاف السبب، "أصبح لمات ول بو ذناب شريكاً لي في تفكيري وهواجسي وخيالي، كيف لذلك الطفل الذي جمعتني به أقدار ونحن صغار، أن يكبر بهذه السرعة ويملأ ذكره الآفاق، ثم يختفي، يقع كل ذلك وهو على أبواب العشرين. كان سبب اختفائه المشاع بين الناس تافهاً وغير مقنع، فلماذا اختفى وكيف؟ رافقتني تلك الحيرة وتلك الأسئلة حتى غدت كابوساً وهاجساً لا يفارقني لحظة".
تطرح الرواية إشكالية الهوية بالنسبة للموريتانيين ذوي البشرة السمراء والذين يشكلون الأغلبية في البلد، لكنهم مع ذلك يُعتبرون من طبقة العبيد في نظر أصحاب البشرة البيضاء هناك. وقد عانى هؤلاء من ظلم تاريخي طويل، تحاول الرواية الكشف عنه، وعن جذور العبودية، وعن محاولات طبقة السادة لإضفاء الشرعية على هذه الممارسات مستعينين بالأحداث التاريخية تارة، وبالآيات الدينية مرة أخرى، معتبرين ذلك احتراماً لنسق الحياة ووجودها، وأن العبودية هي جزء من التكامل الكوني، ومحاربين كل شخص يتحدث عن مبادئ العدل والمساواة محاولاً التمرد على هذه المعتقدات. بل حتى إنهم يورّثون هذا لأطفالهم، فيقفون في وجه أي صداقة تنشأ بين طفلين ينتميان إلى طبقتين مختلفتين.
"هذه الحياة يا بنيّ قضاء وقدر... واحترامنا لنسقها وقانونها هو أساس الوجود والبقاء والسيرورة... تحرير "ول هيدال" للعبيد خطوة غبية من عسكري جاهل... لا أتشبث بالعبودية لإيماني بها، ولا لحبي لها، غير أنها جزء من التكامل الكونيّ... لم يفاجئني كلام الفقيه العالم الرباني قاضي المدينة، مصدر الأحكام باسم الله... لا أنسى يوم ناداني هامساً في أذني: يا ابني ما بمثل هذه الصحبة ساد آباؤك وعُرفوا... مصاحبة الأرذال تزري بالمروءة وتقدح في الشهادة... إن البياض قليل الحمل للدنس".
إشكاليتان تطرحهما هذه الرواية: أزمة الموريتانيين الذين يعانون ظلم العبودية، والرذائل التي يمارسها رجال الدينيكتب "أحمد ولد الحافظ" روايته مستخدماً حبكة بوليسية، لكن من دون مبالغات، فيجري السرد بطيء الإيقاع، ودون تشويق شديد، لدرجة قد ينسى القارئ معها سؤال الإثارة الأول الذي يشكّل بداية السرد، فبعد اختفاء "لمات" وبدء صديقه بالنبش وراءه لمعرفة سبب هذا الاختفاء، يعثر على حقيبة جلدية فيها كراس أصفر مدفون تحت شجرة المسيم التي كان يحبها "لمات" ويجلس تحتها. وفي هذا الدفتر كتب ما يشبه سيرة حياته، أيام دراسته، والمواقف التي كانت تحصل مع زملائه ومعلميه، والأهم والأخطر، كتب السر الذي أخبره به صديقه "ابيليل"، والذي هو حكاية جدته التي تكشف خداع رجال الدين، وورعهم المزيّف، وتكشف الظلم المضاعف الذي لقيه هو وعائلته في نسبهم إلى العبيد. "انتبذت هذا الركن بعيداً عن أدران البشر القاتمة، ركنت هنا إلى أرواح آبائي الطيبين، لأعلن براءة، باسمي وباسمهم، من كل إفك مورس ظلماً، واكتوى به بريء... ما عادت بي رغبة إلى شيء من تلك الحياة... سأفضح كل عناقيد الرذيلة التي ارتكبت باسم الله وباسم المروءة... سأعرّيها، سأبرئ ذمتي لربي، وهو حسبي وعليه معوَّلي!". هكذا، يراوح السرد بين فصول تتناوب في وصف أيام دراسته وفصول تعود بالزمن إلى الوراء عشرات السنين يحكي فيها حكاية جدة "ابيليل" فاضحاً الكثير من الأسرار المظلمة، والتي سيكون كشفها سبباً في اختفائه المريب. أحمد ولد الحافظ كاتب موريتاني من مواليد 1976، يقيم في الدوحة حيث يعمل في الإعلام. الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون/ بيروت عدد الصفحات: 224 الطبعة الأولى: 2016 يمكن شراء الرواية من موقع النيل والفرات أو موقع متجر الكب العربيّة جملون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين