لعله بات عصياً على امرأة مثلي أن تحاول إقناع الآخرين، ممن لا يزالون يتخذون الجنس معياراً في تحديد الحقوق والواجبات للبشر، واشتراط الذكورة في تحقيق الأفضلية بينهم. ولا يمكنني أن أقول ماذا أود في خيالي أن أفعل، بذاك الذي يحرمني حقوقي، وينتقص من أهليتي وعقلي، بأدلة واجتهادات ظنية غير إلزامية. رغم أنني أعتبر الدليل الديني عموماً خاضعاً لمعيار القبول والاتباع "الشخصي". فالدين علاقة خاصة بين العبد وخالقه.
لكننا للأسف ما زلنا نخضع لمنطق الوصاية، وصاية الناطقين باسم الله، الذين يفرضون آراءهم الدينية على الآخرين، ويلزمون بها العموم. ويرون كل من يخالف آراءهم ضالاً خارجاً من الملة. منطق الوصاية هذا خطر إلى درجة نتجت بسببه كل الجماعات الإرهابية، التي تريد فرض فهمها الخاص للشريعة بمنطق الوصاية، إذ كل منها ترى أنها تملك الدين الحقيقي والفهم الصحيح للدين، وهي الحارسة للفضيلة، ومن واجبها إنزال حكم الله "الذي تفهمه كما تشاء" في أرضه، فهل كانت ستظهر لنا جماعة تفرض وصايتها بالقتل كداعش لولا هذا المنطق؟
فوجئت حين كنت أقرأ عن الأدلة الشرعية في تولي المرأة القضاء، أن "نقصان العقل" أحد الأدلة الرئيسة في محاربة هذا الحق! فالقضاء يحتاج إلى كمال الرأي، وهذا بنظرهم ذكوري. بينما رأي المرأة ناقص، خصوصاً في محافل الرجال. والسؤال هنا هل كمال العقل وسداد الرأي صفتان يتصف بهما كل الرجال؟ وعليه هل نقصان العقل عام على كل النساء؟ ألم يطبق النبي رأي أم سلمه في صلح الحديبية، وكانت صائبة، بينما استعصى عليه وهو النبي الموحى إليه؟
تغيرت المعطيات والزمان والمكان، ولم تتغير الاجتهادات والآراء المبنية عليها، وتساير الواقع، ومقتضيات العصر التي تستوجب وجود المرأة الآن في جميع الميادين. فأصبحنا في زمن المرأة النائب والوزيرة ورئيسة الدولة، وبات من المعيب الحديث عن نقصان العقل لمجرد أنها امرأة، ناهيك بالحديث بشيء من الدراما المفرطة عن انسياقها وراء عاطفتها، وما يعتريها من حيض ونفاس، يرون أنهما يؤثران في فهمها للحجج، وبالتالي في تكوين الرأي الكامل. ولا يرى ذلك إلا المتأسلمون، أما بقية العالم المحترم، فيرى أنها حالة بيولوجية طبيعية، لا علاقة لها بالفهم والإدراك. ولو أردنا مسايرة أصحاب هذا الفكر، لقلنا إن بإمكانها طلب إجازة في هذه الفترة وتكفينا شر الاثنين. فالمرأة حين تصل عبر التدرج الوظيفي إلى منصب قاضية، تكون قد تجاوزت أصلاً فترة الإنجاب، وبعض النساء لهن القدرة على الإدارة أكثر من آلاف الرجال، ولهن من الكفاءة ورجاحة العقل، ما يقدمها عليهم جميعاً. وقد أثبتت أنها في العمل أكثر انضباطاً ودقة، ونسب قبولها في الجامعة أعلى من الشباب. فأي نقصان عقل وأي حيض ونفاس لم يؤثر على تحصيلها العلمي، الذي يتطلب عقلاً مدركاً ووعياً كاملاً.
سارة الدريس تحاول الرد بالحجج على النصوص التي يستخدمها المتشددون في حرمان المرأة من ولاية القضاء
هل بسبب هذه الآراء المتناقضة والأدلة الظنية من أصحاب الفكر المتشدد، نحرم المرأة من أحد حقوقها الأصيلة؟ورغم أنني لا أحب التبرير الديني، ولا أفضل استخدامه، لكن بما أنه اجتهادات، نجتهد نحن بعرض الرأي، فالبحث والتفكير ليسا حكراً على أحد، وللجميع حق الرد. خصوصاً أن غالبية الحجج التي يستخدمونها مبنية على القياس، إذ لا يوجد نص صريح واضح وقطعي في ثبوته ودلالته يمنع المرأة من تولي القضاء. فإن هذه القضية خلافية والمسائل الخلافية يجوز فيها الأخذ بالرأي والرأي الآخر. ولا قداسة على أقوال أحد، و لا مانع من مراجعتها وتقييمها، بل استبدالها بحسب ما تقتضي المصلحة الاجتماعية والأوضاع المتغيرة، وما دام الاجتهاد جائزاً في عصر ما وفق فكره السائد، فيجوز لنا كذلك الاجتهاد وفق فكرنا وظروف عصرنا أيضاً. سأورد بعض النصوص التي يستخدمها المتشددون في حرمان المرأة من ولاية القضاء، والحمدلله أنها واضحة لا تحتاج لبذل جهد كبير في الفهم، إلا من أراد أن يلوي النصوص عنوة لتوافق أهواءه، فهذا لا سلطان عليه حتى العقل.
- حديث "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأه"
- قال تعالى: "الرجال قوامون على النساء فما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا".
- قال تعالى "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة".
- حديث "القضاة ثلاثة، إثنان في النار وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار".
- آخر دليل يستدل به حديث أبي ذر، قال النبي: "يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً وإني أحب إليك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم". وفي رواية: "قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكبي، ثم قال: "يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...