يمضي فوزي يومه إلى جانب جدار إسمنتي كان بناه قبل سنوات طويلة ولم يستطع طلاءه بعد. في أحد تلك الأحياء الشعبية التي يمكن أن نجدها في أي بلد عربي تقريباً، يعدّ فوزي أحلامه دون أن يتمكن من تحقيق أي منها، فهو عاطل عن العمل برغم شهادته الجامعية. يحب النساء لكنه غير قادر على الزواج، يفكر بالجنس معظم الوقت لكن الدين والمجتمع يحرمانه هذه المتعة ما لم تكن بـ"الحلال". ولكن ما السبيل إلى "الحلال"، وهو من دون عمل لا يمكنه شراء شقة وبالتالي لا يمكنه الزواج، ومن دون عقد شرعي على فتاة لا يمكنه ممارسة الجنس. يرى في الإلحاد المنتشر خطراً عليه، ويريد إحياء القيم الإسلامية أكثر من ذي قبل. يعود ليحلم بالجنس ولا يتمكن من الحصول عليه.
إن كان الهاجس الجنسي يربك فوزي فيزيولوجياً "في ظلّ المغريات النسائية الكثيرة"، فإن إرباكاته تتشعب وتتخطاه لتطال شرائح كبرى من الشباب العربي الذي يعاني من البطالة، ومن ملاحقة المنظومات الاجتماعية والأسرية لتفاصيل حياته. تختلط عليه المشاعر بين اليأس والسخط، لكن أفقه محدود بخيارات ثلاثة: إما أن يكون جدارياً (انطلاقاً من الجدران التي يستند عليها العاطلون عن العمل في أحيائهم وأمام منازلهم)، وإما أن يكون مهاجراً أو متطرفاً. ولا يمكن التكهن بردة فعل الساخط، ففي حالات مماثلة يصبح الالتحاق بداعش أو الإلحاد أو اعتناق دين جديد سيان. قد لا يهم شكل التحول بقدر الخروج عن المألوف والثورة على الأشكال التقليدية.
لم يعد الغضب مجدياً؟
"أتمنى عليكم جميعاً، وعلى كل واحد منكم، أن يملك سبباً للغضب. إنه أمر قيّم. عندما نغضب لسبب معيّن، كما جعلتني النازية أغضب، نصبح مقاومين أقوياء وملتزمين". هكذا خاطب الكاتب الفرنسي ستيفان هيسل قبل ست سنوات الشباب حول العالم في منشور عنوانه "اغضبوا". لكن هذا الغضب الإيجابي الذي عاشه الشباب مع بداية "الربيع العربي" أطفأه إحباط ثوراته. كيف لشباب لمس أقصى الحلم عندما ثار على حكامه وظلمهم، ألا يشعر بخيبة أمل مدوية وهو يرى الظروف، التي دفعته للثورة، تصبح أسوأ من ذي قبل؟ السؤال طرحته مجلة "الإيكونوميست" في تحقيق مطول استندت فيه إلى آراء شباب عرب ودراسات أخرى أُجريت في هذا الصدد، وخرجت فيه بخلاصة مفادها أن الغضب اليوم بات خطيراً، ومفاعيله لا يسهل التنبؤ بها. لماذا؟ لأن الغضب الذي تحركه خيبة الأمل اليوم لا يشبه ذاك الذي كان الأمل مرتكزه قبل خمس سنوات.يملك الشباب العربي اليوم الكثير من الغضب، ولكنه غضب يبشّر بما لا تحمد عقباه...
لا يمكن التكهن بردة فعل الشباب الساخط، فعند انسداد الأفق يصبح الالتحاق بداعش أو الإلحاد أو اعتناق دين جديد سيانثمة مظاهر عدة تناقشها المجلة في إطار توقعها مشكلة كبرى قادمة إلى المنطقة:
الانفجار الديموغرافي
ينمو العالم العربي بسرعة تفوق التصور. لقد وصل عدد السكان في العام 2010 إلى 357 مليون نسمة، وهو ضعفَي العدد المسجل في العام 1980. ومن المتوقع أن يزداد حوالي 110 ملايين نسمة إضافية في العام 2025، بمعدل زيادة سنوية 1.8%، مقارنة بمعدل 1% المعتاد عالمياً. في العام 2010، كانت نسبة الشباب بين 15 سنة و24 سنة تشكل حوالي 20% من المعدل الإجمالي، ولكن هذا العدد من المتوقع أن يرتفع في العام 2025 إلى 58 مليون شاباً مقارنة بـ46 في العام 2010.بطالة الشباب
في العام 2010، وعشية "الربيع العربي"، كانت معدلات البطالة المسجّلة في العالم العربي هي الأعلى في المنطقة، إذ تراوحت بين 10 و27%، لكن منذ ذلك الحين والمعدلات في ارتفاع مطرد حتى باتت تراوح اليوم بين 12 و30%. وما بات بديهياً في لاوعينا، تستغربه "الإيكونوميست" بشدة: كلما ازدادت السنوات التي يبذلها الشخص في الدراسة ارتفعت مخاطر البطالة لديه. في مصر، 34% من خريجي الجامعات عاطلون عن العمل، مقارنة بـ2% لدى أولئك الذي لم يصلوا إلى مرحلة التعليم المتوسطة.حجم الهجرة
ليس مستغرباً أن تتصدر كل من سوريا وفلسطين ومصر أعلى معدلات الهجرة في العالم العربي، وتحديداً في العام 2015. في وقت سابق كانت دول الخليج وجهة أساسية للعمل لدى الخريجين العرب، ولكنها لم تعد كذلك بعدما تراجعت أسعار النفط. لم تعد هذه الدول قادرة على تأمين فرص عمل لمواطنيها، وهي التي حمت أنظمتها بإغراءات كثيرة لهؤلاء، ثم أقفلت الأبواب في وجوه القادمين.انهيار القطاع الرسمي
حاولت الحكومات العربية لفترة طويلة استيعاب الشبان الجدد الوافدين إلى سوق العمل عبر استحداث وظائف رسمية لهم، بدل بقائهم في الشارع وتحولهم إلى قوة رافضة مؤذية. ما قام به الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر نموذج. كل خريج يحظى بفرصة عمل، ولكن عبد الناصر لم يتمكن فعلياً، ولم يفعل كذلك من تبعه، من الاستفادة الجدية من الطاقات الواعدة لدى أعداد الخريجين المتزايدة. مع أزمة التسعينات المالية، انهار القطاع الرسمي واختفى الكثير من فرص العمل الحكومية. حتى في دول الخليج، تشير المعطيات إلى أن السعودية مثلاً تحتاج إلى خلق 226 ألف وظيفة سنوياً، ولكن في العام 2015 لم تبلغ سوى الـ49 ألف وظيفة. مع العلم، أن الكثير من الشباب يفضلون البقاء عالة على أهلهم، بدل العمل في وظيفة "غير لائقة"، وذلك لاعتبارات اجتماعية كثيرة ترفع من شأن الفرد العربي بناء على الصورة التي يسوّقها لنفسه.تأخر سن الزواج
بات الشباب أكثر انفلاتاً من منظومة الطاعة للعائلة ورجال الدين وزعماء السياسة. وفيما كان الزواج منفذاً لهربه من سلطة العائلة، أصبح التمرد عليه يظهر كجزء من حالة الرفض العامة. بالنسبة للرجال قد يكون العامل الاقتصادي العائق الأول، أما بالنسبة للنساء فالحرية وإثبات النفس في سوق العمل قد يكونان الدافع الرئيسي لتأخر الزواج، إضافة إلى وضع الرجال الاقتصادي من جهة وغيابهم في الحروب من جهة أخرى. بحسب "الإيكونوميست"، لقد ارتفع معدل الزواج إلى عمر 39 لدى النساء.اهتزاز الإسلام
لم يعد الدين ركيزة استقرار نفسي للفرد كما كان في السابق. في بلدان عديدة بات بعض الشباب يخافون المجاهرة بمظاهر التدين خوفاً من قمع حكوماتهم، لا سيما في البلدان التي حكم فيها "الإخوان المسلمون" ثم تراجعوا. في المقابل، ثمة شباب باتوا يجاهرون بمظاهر الإسلام المتطرفة التي تعطيهم أماناً ذاتياً في إطار الجماعة، أماناً يفتقدونه على صعيد فردي. هؤلاء أصبحوا أقل انفتاحاً على ثقافات أخرى. بعضهم يتعاطف مع الجهاديين المتطرفين ولا يملك الجرأة للالتحاق بهم، وبعضهم اتخذ هذا الخيار الذي يؤمن له في أحيان كثيرة المنزل والزواج والجنس وفرصة العمل، وكثير من "الأدرينالين" المفقود في الحياة اليومية.الغضب المناسب للشخص المناسب
أسباب الغضب اليوم، وإن بلغت ذروتها، تبدو أقل وضوحاً في عالم يزداد تعقيداً. ليس سهلاً توجيه هذا الغضب في عالم مترابط، وسط تيارات متشعبة. تفيد العودة إلى أرسطو هنا، الذي كتب قبل ألفي عام في كتابه الكلاسيكي "فن الخطابة"، شارحاً "يمكن لأي شخص أن يغضب، فهذا أمر يسير. ولكن توجيه الغضب إلى الشخص المناسب، وبالدرجة المناسبة، وفي الوقت المناسب، وللسبب المناسب، وبالطريقة المناسبة ليس بإمكان الجميع، فهذا ليس بالأمر اليسير". قد يكون الظرف مناسباً للغضب والأسباب كذلك، لكن هل ثمة أشخاص مناسبون لذلك وإن وجدوا فهل يمتلكون الطريقة والقدرة على التحكم بدرجة هذا الغضب، وإن غضبوا فهل الطرف المقابل مستعد للتعامل بالإيجاب مع هذا الغضب؟ الجواب هو النفي بحسب المعطيات الراهنة. في علم النفس، تقول النظرية إن من يملكون القوة البدنية أو الجمالية أو المادية وما يتبعها من ثقة بالنفس هم أكثر قدرة على استثمار غضبهم وتوجيهه لتحقيق ما يريدون. كما يحفظ التاريخ لغاندي ونلسون مانديلا ومالكوم إكس وغيرهم قدرتهم على الغضب المنظم في سبيل الإصلاح. لكن الظروف العربية اليوم تحرم الشباب ترف تنظيم غضبهم والبحث في استثماره لا عنفياً. هم غاضبون اليوم لكن اليأس غالب، وفي أحسن الأحوال عندما يتحركون لا يفعلون أكثر من "وضع الثعلب في قن الدجاج".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...