ووقعت في غرام روعة. كنت في الصف الحادي عشر، وكانت في الصف التاسع، وكانت مدرستها ”علية بنت المهدي“ - التي لم أعرف من تكون حتى الآن - قرب مدرستي ثانوية حلب الخاصة في الجميلية. كانت تسكن في العامرية بعد حي الأنصاري مشهد، وكنت أسكن في حي صلاح الدين الذي يمكنني الوصول إليه عبر ذات الباص. لم يكن هناك من حديث بيننا، فقط كانت تلك النظرات الثاقبة التي كنتُ أعتقد أنها تذيبها وتدمرها عشقاً، ولم أكن أصعد لوحدي، إنما برفقة صديقي وكاتم أسراري أحمد سلّاح. كان السلّاح قد ترك الدراسة من أصلها، لكنه كان يقف أمام مدارس البنات بانتظام كل يوم، صباحاً وظهراً، لم يتأخر على دوامه في أيٍّ من الأيام، أما الآن فإنه يداوم دواماً ثالثاً أو إضافياً معي.
كانت الموضة أن يكون بنطال الجينز ضيقاً من الأسفل، وكان السلّاح مغالياً في اللحاق بركب الموضة، فكان يخيط أسفل البنطال بنفسه كل يوم أثناء ارتدائه صباحاً. لم يكن هناك من يرتدي بنطالاً أضيق من بنطال السلّاح، حتى أعتى الأغنياء من مواكبي الموضة، إلا أن مشكلة السلّاح كانت في أنفه الذي لا يتوقف عن السيلان في رشح أبدي، فكان دائماً يستخدم كمَّه كأداة تقليدية شعبية بحتة لمسح الأنف. لم يصله اختراع المحارم بعد... أما أنا فكنتُ ألبس البيجاما تحت بنطال الجينز كي أداري شكل ساقي الرفيعتين المخجلتين والخجولتين.
دقّت ساعة الصفر ونحن ننتظر عند موقف الباص. جاءت معذبتي، جاءت روعة بكامل روعتها، ببدلتها المدرسية الكحلية، بإشاربها التقليدي الذي يظهر نصف شعرها... كانت تنضم إلى حشد الواقفين كل بانتظار باصه، إلا أنها كانت تحرص على التقاطي بعينيها السوداوين الجريئتين المقتضبتين في النظرات. لم تكن نظرتها إلي لتتجاوز جزءاً من الثانية، وكنت دائماً بالمرصاد، لم أكن محترفاً بفن اصطدام عينيَّ بعينيها، إنما كان الاصطدام يحدث بسبب أن عينيَّ تبقيان معلقتين بباب المدرسة حتى ظهورها وسط حشد الطالبات الخارجات من المدرسة وتراقصها الساحر إلى الموقف. بعد أن تتصادم نظراتنا النارية أبدأ بتمثيل دور اللامبالي، فأمنع السلّاح بدوره من النظر إليها، لكن هيهات أن تنطلي عليها الخدعة.
أمَا صعدنا خلفها مراراً ووقفنا بحانبها في الباص المزدحم متبادلين الأحاديث التي ترفع من شأني أمامها بصوت مسموع؟ أما صعدنا مرة في الباص قبلها فلم تصعد نكاية بنا؟ بل وابتسمت منتصرة علينا وكأنها تلوح لوداعنا والباص يمشي بنا، أما نزلنا في الموقف التالي، وعدنا ركضاً إلى أن وصلنا قرب الموقف وتصنَّعنا المشي بوقار، وكأننا نسينا شيئاً هنا، فبحثنا عن غرض ضائع ووجدناه. أخرج السلّاح جزدانه من جيبه وصاح: لاقيته للجزدان أبو حسين لاقيته. ثم بدأ ينفض عنه غباراً افتراضياً وناولني إياه وكأنه جزداني... أما لاحقناها في الباص ونزلنا في الشارع خلفها وأوصلناها إلى رأس حارتها لأكثر من عشر مرات؟ فكيف ستنطلي خدعة لا مبالاتي الغبية هذه بها!
جلست روعة بجانب مفيدة جارتنا، وانتهزت الفرصة وتبادلت الحديث مع مفيدة وأنا واقف، بينما السلّاح ينظر إلى روعة ببلاهة من خلفي ويمسح أنفه بكمِّه. نزلنا دون أن نوصل روعة إلى حارتها كالعادة بسبب وجود مفيدة، لكن يبدو أن نزولنا قد أدى إلى استغابتي، ففي المساء كان خبر مغامرتي الغرامية غير المحمودة قد وصل إلى المنزل عبر خدمة التوصيل السريع من قبل مفيدة. على هون بيوجعك وهون ما بيوجعك بدأت بتلقي الضربات من أبي وأمي وأخواتي البنات حتى، استبيحت كرامتي وأُهدِرَ دمي، وأصبحت منبوذاً وقليل أدب بالنسبة لعائلتي ولكل من يزورنا. الخبر بدأ يأخذ حقه في التحليل والتمحيص مع كل الضيوف والأقرباء، إلا أنَّ ورود اسم السلّاح في الخبر كان أشد ما يقهرني، إذ أن روعة قالت لمفيدة: طالما أنه يحبني فلماذا لا يلاحقني لوحده؟ لماذا يأتي بالسلّاح معه!
بعد أسبوع من جفائي لروعة أمام الموقف صباحاً ومساءً وعبوسي في وجهها، بل وعدم الصعود خلفها بالباص، اقتربت مني وقالت: أنت ليش بتجيب السلّاح معك؟ فأجبت: لقد ضربني أبي بسببكِ. ضحكت وصعدت درجات الباص والتفتت فوجدتني لم أتحرك من مكاني خلفها، نزلت وأشارت أن أقترب منها، اقتربت وخلفي السلّاح طبعاً، قالت: أراك في الحديقة العامة غداً على المقعد المقابل لجهاز الستيريو، دون السلّاح طبعاً.
انفلجتُ، شلت أطرافي، شلت البيجاما تحت بنطال الجينز، تفتقت الخيوط التي تضيِّق بنطال السلّاح، بل توقف أنفه عن السيلان أيضاً.
جاء الغد يا شباب، وتقدمت كعاشق عريق إلى المقعد بعد أن وضعت قطعة نقود في جهاز الستيريو ضاغطاً على أغنية ”فاتت جنبنا" لعبد الحليم حافظ. عينك يا سلّاح تشوفني وأنا في الغرام، وفاتت روعة جنبنا فعلاً بعد أن أشارت لشخصين من عمال الحديقة إليّ. كان العامل الأول والدها الذي أبى أن يحتكر والدي مشاريع ضربي، وصديقه الذي لا أعرف لماذا ذكَّرني بالسلّاح، وعلى هون بيوجعك وهون ما بيوجعك، كنت أتحمل ضربات والدها وصديقه بصمت، لا لشيء، إنما فقط كي لا يشوِّش صراخي على موسيقى ضحكتها المتراقصة مع جسدها وهي تمشي وسط أشجار السرو الباسقة، وصوت عبد الحليم يرافق ضحكتها بانسجام رهيب.
نشرت هذه التدوينة على موقع رصيف22 في تاريخ 08.10.2013، ونعيد نشرها اليوم على مدونة رصيف22. رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...