تلتقي مجموعة من الشباب والشابات من جنسيّات عربيّة وأوروبيّة، وينشدون نصوصاً من شعر مانترا الهندوسيّ، ويعزفون الموسيقى على سطح مقهى lvovich في مدينة دهب المصريّة، الواقعة على خليج العقبة، جنوب سيناء. وتنظّم مدرّبة اليوغا السويسريّة كارولين ديفا تلك الأمسيات أسبوعيًّا، برفقة أصدقائها من مصريّين وأوروبيّين وأردنيّين، فتمتزج فيها ثقافة الشرق بثقافة الغرب.
تقول كارولين ديفا المقيمة في دهب، خلال إحدى الأمسيات الموسيقيّة التي حضرها "رصيف22": "بدأنا هذه الأمسيات في مارس الماضي، وغالباً ما يكون التجمّع مساء السبت، في حضور ما بين 6 أو 15 شخصاً ينشدون معنا، على أن نقوم بإنشاد الشعر الصوفيّ العربيّ السبت المقبل، فالموسيقى تجمع الثقافات في روح واحدة".
هذا التجانس بين مختلف الثقافات في مدينة دهب لا يقتصر على الأمسيات الموسيقيّة، بل على الحياة اليوميّة أيضاً، فإلى جانب الطرق الجبليّة الوعرة والجِمال والحياة البدويّة، توجد المطاعم الإيطاليّة والهنديّة، ولافتات باللّغتين الروسيّة والإنكليزيّة، وكلّها عناصر غدت جزءاً مهمّاً من هويّة المكان.
الباحثون عن الشمس
وما يجمع بين مختلف الجنسيّات من دون أن يكون الأمر تحدّياً، هو التعايش السلميّ، فإلى جانب البدو، وهم سكّانها الأصليّون، هناك الأجانب من حملة الإقامات في مصر، وآلاف المصريين الذين يأتون من القاهرة والفيّوم والصعيد للعمل فيها كسائقي تاكسي ومدرّسين وإداريّين في المطاعم، والكثير منهم يتزوّجون من جنسيّات أجنبيّة. لذلك، من المألوف أن تجد أطفالاً سمراً بعيون زرقاء أو يحملون ملامح مصريّة بشعر أشقر. يقول أوليفير كليرك (23 عاماً) من بلجيكا لـ"رصيف22" إنّ الحكاية في دهب دائماً تبدأ بالسياحة، فتتحوّل رحلة الأسبوع إلى الإقامة بضع سنوات". ويضيف: "أتيت إلى هنا في إجازة لأيّام عدّة، ولكنّي وقعت في حبّ المدينة وطيبة أهلها، فلم أستطع مغادرتها، ثمّ رجعت إلى بلجيكا بسبب أمور شخصيّة معلّقة، وعدت الآن لأقضي بقيّة العام هنا، فمن الصعب أن أترك الشمس". ليس أوليفير وحده من يبقى في دهب من أجل الشمس والبحر، بل معظم من يعيش في المدينة من الأجانب أيضًا. تشير كارين كارين فييت (42 عاماً) إلى أنّ الشمس والبحر والدفء خصوصاً خلال فصل الشتاء، أسباب تجذب الأجانب، فيقيمون في المدينة، إضافة إلى الأمان والسلام. وتضيف: "ثمّة أنواع من المقيمين الأجانب، فهناك كبار السنّ الذين يتقاعدون من عملهم في أوروبا أو كندا، ويعتمدون على راتبهم التقاعدي الذي لا يكفيهم هناك، ولكن يكفيهم هنا. كما توجد عائلات لا تعمل، لكن لديها عقار تؤجّره في بلادها، وهناك شباب يعملون في الترجمة أو التّصميم على الإنترنت". ويعود انخفاض الأسعار في دهب إلى انخفاض قيمة الجنيه، إذ أصبح الدولار الواحد يوازي 12 جنيهًا مصريًّا، وسط تصاؤل عدد السياح عقب سقوط الطائرة الروسية التي أقلعت من مطار شرم الشيخ في 31 أكتوبر 2015.مدينة تتعافى من آثار الارهاب
ما تتحدّث عنه فييت من أمان، عمَّ بعد أن داوت المدينة جراح الإعتداءات الإرهابيّة في العام 2006. تسبّبت تلك الاعتداءات بمقتل حوالى 18 شخصاً، وأدينت جماعات متشددة بالوقوف وراءها. وبعد تلك التفجيرات، زاد التشدد الأمني، إذ يفحص كل المسافرين الذين يدخلون بوابة المدينة حتى هذه اللحظة. تبدو دهب اليوم مدينة بعيدة عن الإرهاب والتطرّف سواء أكان في المظاهر العامّة للسكان أم الخطب الدينيّة التي تصدح من مسجد "التقوى" الرئيسيّ في المدينة، الواقع في شارع الفنار. وليس بعيداً عن المسجد، يقع سوق "الشيخ سالم"، وهو سوق تنظّمه إدارة فندق "الشيخ سالم"، منذ أربعة أعوام، كل يوم جمعة، لبيع المأكولات والكتب القديمة والملابس المستعملة. ويشبه هذا السوق أسواق يومي السبت والأحد في أوروبا للأغراض المستخدمة. يبدو السوق جذّاباً على شاطئ البحر وزاخراً بالألوان والابتسامات، وتبيع نساء مصريّات وبدويّات وأجنبيّات الطعام الذي يعرضنه على طاولات خشبيّة أمامهنّ. تقول الروسيّة سفيتيا (45 عاماً) التي تضع كيك "نابوليون" على طاولتها وتبيعه بالقطعة: "نحبّ الحياة هنا، أتيت للسياحة منذ ثلاث سنوات، ولكنّي اخترت العيش في دهب مع ابنتيّ، وهما تدرسان هنا عبر الإنترنت". وتضيف: "الحياة رخيصة، والايجار كذلك، والجوّ صحيّ وغير ملوّث، إنّه أفضل مكان لتربية الأبناء، ولكن في الصيف يسافر الجميع لقضاء الإجازات في مدنهم الأصليّة". وعلى الجهة الأخرى، تقع طاولة باربرا (60 عاماً)، ويناديها الجميع الأمّ باربرا، وهي أيضاً من روسيا لا تتحدّث العربيّة أو الإنكليزيّة كما البقيّة، وتبيع "الكيش" على طاولتها والحساء الروسيّ البارد. تترجم صديقتها كلماتها الآتية: "الناس تعبوا من المدن الكبيرة والتلوّث والغلاء، فيأتون إلى هنا بسبب جوّ اللطيف، إضافة إلى البحر والشعور بالراحة". وتقول نتاليا (64 عاماً) من أوكرانيا: "جئت مع ابنتي منذ ثلاث سنوات، ونحن هنا لأنّ الحياة آمنة ورخيصة، فنؤجّر شقّتنا في أوكرانيا، ونصرف من ثمنها". وأوضحت أنّها تعود إلى بلادها بحسب مدّة أوراق الفيزا التي تسمح بها السلطات المصريّة.حياة مشتركة
يجول رضوان سالم (26 عاماً) بين طاولات سوق "الشيخ سالم" ليأخذ بدل إيجار الطاولة الذي لا يتجاوز 25 جنيهاً أيّ حوالى الدولارين. سالم أحد أصحاب الفندق الذين ينظمّون فعالية السوق، يقول لـ"رصيف22": "بعد أن تناقص عدد السيّاح، وتدهورت الأوضاع الاقتصاديّة في المدينة، أردنا إنجاز شيء مختلف قد يجمع المقيمين الأجانب مع البدو، لإنعاش الوضع الماديّ للفندق والمنطقة، فقمنا بالإعلان عن هذا السوق عبر الإنترنت. وبالفعل، هناك إقبال جيّد". إنّ هذا الاندماج يبدو واضحاً أيضاً في العلاقة بين الأطفال، فسونيا (9 سنوات) تفترش ملابسها وألعابها القديمة على طاولة خشبيّة في سوق "الشيخ سالم"، لتتخلّص منها قبل سفرها ورجوعها إلى موسكو، وتساعدها في ذلك صديقتاها البدويّتان أسماء فريح وخديجة موسى، فتتحدّثان معها بالإنكليزيّة، كما تترجمان لها أسئلة المشترين. تقول فريح: "نعرف سونيا منذ خمس سنوات، وتعلّمنا الإنكليزيّة لنتواصل معها، ونحن نحبّها جدّاً، ونسبح معها في البحر. كما تزورنا في البيت". في دهب يتجاوز هذا التعايش النظرة الاستشراقيّة التقليديّة عن السائح الغربيّ الأبيض في الصحراء، إذ هناك اندماج حقيقيّ وحياة مشتركة، وتفهّم من الصعب إيجاده في مكان آخر.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...