الأحد 16 مارس 2003
إنها الساعة التاسعة مساءً. أنا في مقر عملي في الزوق، بلدة على أوتوستراد بيروت- طرابلس. المطعم مزدحم بالزبائن. تسلك طريق العودة إلى المنزل بعدما قرّرَت الذهاب لشراء بعض الحلوى. أتوقّف فجأة. لا أدري ماذا حصل لي. لا أقوى على القيام بأيّة حركة. أتوجه نحو البار وأجلس على الأرض. أتّكأ على ركبتيْ. يسألني زميلي: ما خطبك؟ لا أملك إجابة. تستمع إلى الراديو. ربما، لست متأكدة. تفكر في السفر بعيداً. عبّرت مرة عن رغبتها في ذلك. لن أعلم إن كانت تغني برفقة صابر الرباعي "عز الحبايب" في تلك اللحظات. أغنيتها المفضلة حينها. تتقدم بسيارتها نحو المنزل. تمرّ سيارة من أمامها بسرعة جنونية. تصدمها أخرى (يقودها شاب قرر التسابق مع السيارة الأخرى) من الخلف وترمي بسيارتها من على الجسر نحو الوادي. لا أزال جالسة على الأرض. لا رغبة لي في الحركة. المكان مزدحم وأنا لا أرى ولا أسمع أحداً. ينتابني شعور غريب. يسألني زميلي مجدداً: ما خطبك؟ لا أجيبه. تأخرّت بالعودة. يتصلّ أخي بها. لا تجيب. يحاول مراراً وتكراراً. يسمع صوت رجل عبر الهاتف. يسأله عنها. يطلب الرجل منه الحضور إلى المستشفى حالاً. يركض أخي نحو المستشفى مسرعاً. يركض. يتذكر أنّ المستشفى بعيد. يعود أدراجه إلى المنزل. يطلب من الجيران إيصاله.الأحد 16 مارس 2003
إنها الساعة الحادية عشرة مساءً. المكان خلا من الزبائن. ما زلت جالسة على الأرض. توّقف زميلي عن الاطمئنان عليّ. يتابع عمله. يصعد زميل آخر من الطابق السفلي. ربّ العمل يطلبني. أنزل وأرى صديقي واقفاً أمامي. لقد تعَرّضت لحادث. هي الآن في المستشفى تحت العلاج. أنزل. أنظر إلى الخارج. أرى أخي في السيارة. أطلب إذناً بالمغادرة. أخرج. يركض نحوي ويضمني إليه. “توفيت”. هكذا ماتت أمي. بهذه السرعة، بهذا الرخص، بهذا القدر من اللامبالاة والتهوّر. دقيقتان كانتا كافيتين للقضاء على الأحلام، على المستقبل، على الحياة. هادي جبران. طلال قاسم. أنيتا رشدان. خليل حجار. عصام بريدي. جايك المير. نانسي زيادة. زخيا الراعي. بشير سمعان. أسماء ووجوه ذهبت ضحية طرقات الموت أيضاً. أسماء ووجوه هزتنا لأيام معدودة قبل أن نعود إلى حفلة الجنون اليومي. نخرج من المنزل، نعبر البلد من مقلب إلى آخر، ونأمل أن نعود إلى ذوينا سالمين. لا نعير أهمية لحزام الأمان. "يخنقنا". نضعه فقط إذا لمحنا شرطياً أو أوقفنا حاجز. لا نستطيع التخلي عن الهاتف. نتراسل مع الأصدقاء، نتصل، نفقد التركيز. نشرب، ونصرّ على القيادة رغم اختلال التوازن. نسرع. نتخطى السرعة المسموح بها. نريد أن نشعر بارتفاع الأدرينالين. نخالف إشارات المرور. نتخطى الضوء الأحمر. نتجاهل إشارة عكس السير. نراكم المخالفات. نتسبب بمقتل آخرين. أو نتسبب بمقتلنا. نضيف مأساة إلى مآسي هذا البلد. نحرق قلب أهلنا، أصدقائنا. نحرق قلوب عائلات أخرى. ونمضي. كأنّ شيئاً لم يكن. كأنّ هذه الكوارث لا تستدعي إعلان حالة طوارئ. كأنها لا تتطلب إجراءات استثنائية. نمضي في إحصاء أعداد قتلانا وجرحانا. لم نخسرهم في الحرب، جراء المرض أو نتيجة عمل إرهابي. خسرناهم لأننا لم نحترم حقنا وحق الآخرين في الحياة. لا نتحمّل وحدنا المسؤولية بالطبع. فنحن نعيش في كنف دولة لا تحترم سكانها ولا تحرك ساكناً لحمايتهم. تتفرج عليهم يموتون. تعلن أسفها، تعد ببذل المزيد من الجهود، تطلق المشاريع التي تبقى حبراً على ورق. ثم تعود الأمور وكأن شيئاً لم يكن. تلوم السلطة الإمكانات الضعيفة، تراجع التمويل، فضائح الفساد. من فضيحة رخص القيادة، إلى التلاعب بأسعار مثلث التحذير وأجهزة الإطفاء، إلى التطبيق الاعتباطي للقانون. دولة احتاجت إلى 10 سنوات من أجل إعداد قانون سير جديد، صدر عام 2012. لم تبدأ بتطبيقه إلا عام 2015، لأنها كانت مجبرة على ذلك. لكنها حرصت على تطبيقه مبتوراً. اقترحت اجتزاء التطبيق على مراحل، حرصاً منها على هواجس اللبنانيين. اقتصرت هذه المراحل على ثلاث. الثالثة لم تطبّق حتى. أما بقية البنود فظلّت في الادراج، تجاور غيرها من القوانين. على ماذا يقتصر إذاً تطبيق قانون السير الجديد؟ على تحرير محاضر ضبط السرعة. لوحظ تحسن فعلي في عمل الرادارات. وغرامات السرعة مرتفعة. يفترض أن تساهم في ازدياد المدخول على خزينة الدولة. يفترض أيضاً أن تساهم في تمويل تطبيق باقي بنود القانون. يفترض. تأتي بعدها وبين الحين والآخر حملة على حزام الأمان، استعمال الهواتف واحتجاز الدراجات النارية المخالفة. نصّ القانون على إنشاء المجلس الوطني للسلامة المرورية. مهمته وضع قوانين تنظم عملية السير ومراقبة تطبيقها. لم يبصر النور حتى اليوم. ولا يتوقع أحد ولادته في القريب العاجل. فالحكومة الحالية لم تضع تطبيق القانون على سلم أولوياتها، لا سيما وزارة الداخلية، المسؤولة بشكل رئيسي عن تطبيقه. ولم يخف وزير الداخلية نهاد المشنوق عدم مبالاته عندما صرّح خلال مقابلة تلفزيونية أنّ "قانون السير ليس ضمن أولويات وزارته". 200 ضحية خلال الأشهر الستة الأولى من العام 2016. 1561 جريحاً جراء حوادث السير. ولا يرى المعنيون أن هناك ما يستدعي وضع ملف السلامة المرورية على سلم الأولويات. لا نفاجأ عندما نستعرض فشل هذه السلطة في إدارة البلاد. من أزمة النفايات، إلى أزمة الكهرباء، إلى تلوث المياه وسوء خدمة الاتصالات والانترنت. الدولة في عجز تام ونحن نقع ضحية هذا العجز. فبالإضافة إلى ضرورة إنشاء الهيئة المسؤولة عن تطبيق القانون، يفترض على الحكومة تخصيص موازنة لصيانة الطرق، وتعزيز قدرات القوى الأمنية وتطوير رخص القيادة، التي تشكل المدخل الرئيسي لارشاد اللبنانيين إلى أهمية الالتزام بالمعايير القانونية. لكن اهتمامات السلطة في مكان آخر. في الشجارات اليومية على المحاصصة وعلى عقد الصفقات، فيما يموت شخص على الأقل يومياً على طرقات لبنان. وفيما يتكبّد الاقتصاد الوطني خسائر هائلة جراء أزمة السير. في عام 2016، الطرق في لبنان ما زالت بحاجة إلى الصيانة. الإنارة شبه غائبة عن معظمها. عدد الحفر يضاهي عدد السيارات. ممرات المشاة قليلة ومعظمها غير مؤهل. الأرصفة تَرَف. النقل العام حلمٌ يذكروننا به بين وقت وآخر. نختنق على الطرقات بسبب زحمة السير التي تزداد مأسويةً سنة تلو الأخرى. نموت لأن لا أحد يسعى إلى حمايتنا. نموت لأننا لا نعرف حتى كيف نحمي أنفسنا.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 3 أيامأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 3 أيامحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 6 أيامtester.whitebeard@gmail.com