شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
أسباب تراجع الدور المصري في السودان

أسباب تراجع الدور المصري في السودان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

السبت 30 يوليو 201609:30 ص
كثيراً ما نسمع توصيفيّ "أزلية" و"ضاربة في القدم" لوصف علاقات السودان ومصر. ولكن هذه الأزلية في طريقها إلى الزوال ما لم تكف مصر عن التعاطي مع السودان على أنه فقط الفناء الخلفي لحدائق المحروسة. جملة من مسببات ودواعي الفتور في علاقات الجارين كانت تدسها الخرطوم مع مياه النيل من دون أن تلتقطها الشباك المصرية وهو ما فاقم الأمر إلى حد صدور دعوات بوقف حالة الحب من طرف واحد والتي يكنها السودان لمصر واقتراح توجيه هذه العاطفة نواحي اثيوبيا التي تربطها بالسودان وشعبه علائق خاصة، ونهر النيل، أضف إلى ذلك كثيراً من المصالح المشتركة.

ما هي الأسباب التي قادت إلى ضعف الدور المصري في السودان؟

1- السودان كملف استخباري

من هي الجهة الممسكة بملف السودان داخل الأروقة المصرية؟ يجيب السودانيون: إنها المخابرات. المسؤولون السودانيون يتبرمون من ذلك علانية، ما يهمهم في ذلك النفي المصري المتكرر. فمنذ محاولة اغتيال الرئيس المخلوع حسني مبارك في أديس أبابا (يونيو 1995) وملف السودان يدار بواسطة المخابرات ورجالاتها الأقوياء كعمر سليمان الذي كان حاضراً في كل ملفات البلدين، ما أسهم في إضعاف بقية الحلقات ويأتي على رأسها الدبلوماسية الشعبية. وللتدليل على ضعف الدور المصري في السودان من جراء تلك الممارسة، نقتبس مقولة وزير الخارجية السوداني السابق، علي كرتي، الذي قال في أول تصريحاته بعد توليه الوزارة: "ظللنا نشكو ضعف معلومات مصر عن الحياة السياسية فى السودان وتعقيداتها، إذ ما يزال دورها متواضعاً تجاه قضايا مهمة تؤثر فى العمق الإستراتيجى لها".

2- مثلث حلايب

"السودان ومصر: مرة حبايب ومرة حلايب". هذا التوصيف الدقيق لحالة العلاقة بين البلدين صدر عن أحد رموز نظام المخلوع حسني مبارك. فمتى مرت علاقة الخرطوم والقاهرة بحالة صفو تناسى السودانيون والمصريون سحائب الخلاف ذات الحمولات الثقيلة، لكن بمجرد أن تبدأ الأجواء في التعكر يضطرم الصراع حول أي البلدين أحق بالمثلث الحدودي. سيُفاجأ القارئ لو علم أن أول صدام حدودي حول مثلث (حلايب – شلاتين – أبو رماد) جرت وقائعه في العام 1958. وقتذاك سمى السودان حلايب من ضمن الدوائر الجغرافية المقرر إجراء الانتخابات فيها، بيد أن مصر رفضت ذلك وقررت إجراء استفتاء على رئاسة الجمهورية شمل المنطقة نفسها، وزادت الشعر بيتاً بأن أرسلت كتيبة عسكرية للمنطقة.
على مصر أن تكفّ عن التعاطي مع السودان على أنه فقط الفناء الخلفي لحدائق المحروسة
"السودان ومصر: مرة حبايب ومرة حلايب"، توصيف دقيق لحالة العلاقة بين البلدين...
ومع تمسك كلا الطرفين بمواقفه، طرح الرئيس جمال عبد الناصر عدم إقامة استفتاء أو انتخابات في المنطقة بيد أن السودان ذهب بالقضية إلى مجلس الأمن وفي 21 فبراير 1958 تلا السيد عمر لطفي، مندوب مصر بالمجلس، بياناً وافقت بمقتضاه مصر على قيام الانتخابات السودانية، وعدم قيام الاستفتاء المصري، فضلاً عن سحب الكتيبة المصرية من المنطقة، وكان هذا بمثابة اعتراف قانوني كامل بسيادة السودان على حلايب. واستمرت إدارة السودان للمثلث حتى العام 1992 حين أعلن الجانب المصري رفضه لأية محاولات سودانية للتنقيب عن النفط قبالة شواطئ البحر الأحمر المطلة على حلايب. ومع عمليات شد وجذب بلغت ذروتها عقب محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا، بسطت القوات المصرية سيطرتها على المثلث في العام 2000 وذلك بسبب ما تسميه القاهرة انسحاب للقوة السودانية، وهو أمر ترفضه الخرطوم التي تطالب بجلاء القوة المصرية، مؤكدةً أنها لم تتخلَّ عن المثلث في يوم من الأيام. ويتهم الرئيس السوداني عمر البشير القوات المصرية باستغلال انشغال السودان في حرب أهلية لبسط سيطرتها على المثلث. وعليه، فالسودان يصر على أحقيته في المثلث، ويشكو مصر لدى الأمم المتحدة سنوياً في ما يخص حلايب، هذا وإن كان يرفض بشدة أن تتحول المنطقة لبؤرة توتر تسوق لحرب مع الجارة الشمالية. ولذا فإن سياسة ضبط النفس في السودان على أشدها، إذْ امتنعت السلطات السودانية عن التصعيد العسكري، بل وتحرّم إثارة هذا الموضوع في وسائل الإعلام لحسبانه مساساً بالأمن القومي. ومؤخراً، طالبت الخارجية السودانية بحل القضية بشكل ودي أسوة بما جرى مع السعودية في "تيران وصنافير" أو بتحكيم دولي. فأتى الرد المصري قاسياً بتأكيد تبعية المنطقة لمصر، وقال متحدث باسم الخارجية المصرية "حلايب وشلاتين أراض مصرية وتخضع للسيادة المصرية، وليس لدى مصر تعليق إضافي على بيان الخارجية السودانية". يذكر أن الإعلام المصري قاد حملة شعواء على الرئيس محمد مرسي وكان يتهمه باتجاهه لإعطاء حلايب للسودانيين.

3- سد النهضة

لن يبارح الذاكرة السودانية قط الاجتماع الكارثي لقادة الأحزاب السياسية المصرية لاتخاذ موقف من سد النهضة الإثيوبي. يومها سرى مباشرة وعبر الهواء سيل من الإساءات للسودان الذي تم توصيف موقفه حيال قيام السد بالمقرف. كل ذلك بمصاحبة حلول مضحكة من ضمنها العمل الاستخباري في أوساط القبائل السودانية بجانب تدمير السد وإحالته أنقاضاً بواسطة الطيران المصري. الحقيقة الثابتة أن السودان يؤيد قيام سد النهضة، ليس نكاية في مصر أو خصماً لحصتها المائية، ولكن لما للسد من فوائد يرتجيها وتتمثل في تنظيم انسياب المياه طوال السنة بما يضمن توليد الكهرباء بالطاقة القصوى، مع وقف تدفق الطمي الذي يضر بالسدود السودانية، كما يحول دون الفيضانات المدمرة التي تضرب المدن والقرى، علاوة على توفير مياه لري المشروعات الزراعية، دع عنك التعهدات الإثيوبية ببيع الكهرباء المنتجة في السد للجانب السوداني باسعار تفضيلية. إذاً فإن أي حديث عن الإضرار بالسد، يراه السودانيون تهديداً مباشراً لمصالحهم.

4- الحريات الأربع

في العام 2004، صادق البلدان على الاتفاقية المكناة اختصاراً بـ"الحريات الأربع" أي حريات التنقل، والإقامة، والعمل، والتملك. هذه الاتفاقية وضعها السودان حيز التنفيذ منذ اليوم الأول لكن ماذا عن الجانب المصري؟ يمكن القول إن الاتفاقية مطبقة من الجانب السوداني بحذافيرها، فيما تتباطأ مصر في التطبيق لعدة مسوغات، آخرها انشغالها بما يجري داخلها من أحداث. ولكن في الجانب السوداني ينظر إلى الأمر على أنه استعلاء لا يضع بالاً للفوائد المرتجاة من قبل السودانيين. وجاءت ثالثة الأثافي بعد تذمر سفارة السودان لدى القاهرة نهاية العام الماضي من تزايد حملات تفتيش وحجز مواطنيها الواصلين إلى مصر. وقالت السفارة في مذكرة أرسلتها إلى وزارة الخارجية المصرية إن "ما يحدث أمر غير مقبول بالنظر للعلاقات التي تربط البلدين والاتفاقيات المبرمة بينهما خاصة اتفاقيات الحريات الأربع".

5- المباراة الفاصلة

بكل طيب خاطر، قبل السودان استضافة المباراة الحاسمة بين مصر والجزائر على بطاقة التأهل الأخيرة لكأس العالم لكرة القدم في جنوب أفريقيا العام 2010. المسؤولون المصريون سارعوا إلى المواقفة بحسبان أن الجالية المصرية في السودان كبيرة، فضلاً عن توفر إمكانية انتقال المشجعين المصريين بيسر إلى الخرطوم، كما أن أعداداً غفيرة من الأهالي السودانيين ستعمل على تشجيع منتخب الفراعنة داخل استاد المباراة. لكن ولأن الطريق إلى الجحيم مفروش بالنوايا الحسنة، انتهت المباراة بخسارات عدة. خسر الفراعنة النتيجة في الملعب، بينما كانت خسارتهم الأفدح حين جلس الإعلامي إبراهيم حجازي بعد المباراة ليقول إن المصريين يتعرضون للقتل والسحل في شوارع الخرطوم وهو أمر مجافٍ للحقيقة.

6- تراجع الأدب والدراما المصريين

من أكثر العبارات التي ستسمعها في السودان "القاهرة تكتب... بيروت تطبع... والخرطوم تقرأ". عليه يمكن القول إن معظم سودانيي ما قبل تسعينيات القرن المنصرم تربوا على الثقافة والمناهج المصرية فهم خريجو الأزهر وجامعات مصر وحواري العقاد وطه حسين ونجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وأحمد شوقي وأم كلثوم وعبد الحليم وغيرهم من العمالقة. لكن منتوج القاهرة الفكري والأدبي الذي كان يرسم في وقت ما مستقبل السودان حتى السياسي منه، تراجع كثيراً. للأسف الحال نفسه ينطبق على الدراما المصرية التي كانت تشكل وجدان السودانيين بأكثر مما تفعل دراماهم نفسها، وتجد قائمة طويلة من فناني المحروسة منحوتة في الذاكرة السودانية: سعاد حسني، رشدي أباظة، فاتن حمامة، عادل إمام، أحمد زكي... وكان السودانيون قد أطلقوا على أحد موديلات سيارات الدفع الرباعي الفاخرة اسم "ليلى علوي". لكن تراجع المنتوج المصري عربياً، كما أن للسودانيين أسباباً إضافية لهجرة الدراما المصرية إذ تصور حلايب وشلاتين بأنهما محض منافٍ للضباط المصريين المشاغبين، بينما يقتصر الظهور السوداني على أشكال وهيئات سمجة بكل تأكيد لا تمثل الواقع.

7- الإعلام التحريضي

إن أردت ملامسة السخط السوداني على مصر بيديك العاريتين فما عليك سوى التجول على القنوات المصرية. ستسمع أفكاراً من شاكلة إعادة احتلال السودان وضمه للتاج المصري. ستجد أحاديث عن اتهامات خطيرة -دون دلائل- عن دعم وإيواء السودان للجماعات الإرهابية، كما ستجد استهزاءً فجاً من السودانيين كما يفعل برنامج "بني آدم شو" الخالي من المضمون والمجرد من الآدمية، ذلك خلافاً لعرض بعض الأعمال الغنائية السودانية كما في روائع الفنان محمد وردي (وسط الدايرة، وبطاقة شخصية) على أنها محض تراث مصري. بالطبع لا يساعد ذلك سوى في تقوية التيار الأفريقي الداعي إلى تصحيح اختيارات السودان في ارتضائه أن يكون أسوأ العرب عوضاً من أن يكون أحسن الأفارقة.

فرص التدارك قائمة

السودانيون لم يعد في مقدورهم سماع مغنيهم يصدح بـ"مصر يا اخت بلادي يا شقيقة". هم في حاجة اليوم لأكثر من العاطفة، هم في حاجة لمن يغلب مصالحهم قبل أن يحدثهم عن العلاقات الأزلية الضاربة في القدم. [timeline/]

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image