في القدس، ولدت أولى دور السينما الفلسطينية وازدهرت، إلى أن أقفلت جميعها مع الاحتلال الإسرائيلي، في حين لم يبق للفلسطينيين سوى الأفلام المقرصَنة.
شهدت مدينة القدس افتتاح أول دار سينما فلسطينية، "أوراكل"، عام 1908. ثم خلال مرحلة الانتداب البريطاني، تكثّفت موجة دور السينما الجديدة، لاسيما في الثلاثينيات، مثل صالات "ركس"، "إديسون"، "أوريون"، و"ريون".
كانت تلك السينماهات تعرض الأفلام التجارية المصرية بشكل خاص، إضافة إلى الأفلام الأجنبية، الناطقة و الصامتة.
عرضت، مثلاً، أفلام عبد الوهاب وكيرك دوغلاس، إضافة إلى العديد من الأفلام الهندية التي كانت تتمتع بشعبية كبيرة في ذلك الوقت.
بعد النكبة، تدهور وضع السينما كما معظم فلسطين، حتى جاءت هزيمة 1967 التي قضت بشكل شبه نهائي على دور السينما، التي أغلقت غالبيتها، في حين لجأ ما بقي منها، فيما بعد، إلى عرض الأفلام الإباحية، لاستعادة الجمهور.
منذ دخولها فلسطين، أخذت ثقافة ارتياد دور السينما أشكالاً مختلفة لدى الناس. كان لافتتاح عدد كبير من دور السينما وتناميها في ظل الانتداب البريطاني أثر في علاقة الجمهور بها. وذلك يعود لأسباب عديدة، أهمها صدور قانون خاص بالأشرطة السينمائية يحدد ما يمكن عرضه ومشاهدته.
كانت تلك المرحلة الأولى التي بدأت بتحديد العلاقة ما بين الجمهور ودور العرض. فقد اعتبرت موافقة الأخيرة على هذا القانون بمثابة تواطؤ مع الانتداب البريطاني، ما دفع جزءاً كبيراً من الجمهور، لاسيما الملتزمين دينياً وسياسياً منهم، إلى مقاطعتها. في هذا الوقت، تابع جزء آخر ارتياد السينما، فاصلاً بين سياسات الانتداب ودور العرض، معتبراً تلك الحادثة جزءاً من العديد من القوانين المفروضة على الفلسطينيين والتي تشمل جوانب الحياة المختلفة.
ظلت دور السينما تجلب الجمهور إلى أن ظهر عنصر جديد تبلور بزيادة عرض الأفلام الأجنبية، وخصوصاً البريطانية التي تظهر فيها الكثير من المشاهد التي كانت تعتبر إباحية بالنسبة إلى مدينة محافظة مثل القدس. هكذا، توقفت الزيارات العائلية والنسائية إلى دور السينما، لتحصر الزيارات بالذكور فقط، خصوصاً الكبار منهم. كان الكثير من الرجال يمنعون أبناءهم الشباب من الذهاب إلى السينما، ليس خوفاً عليهم فحسب، بل خجلاً من ملاقاتهم هناك أيضاً، وما يتبع ذلك من إحراج. في الوقت نفسه، ظلت نساء قليلات ترتاد السينما في ظل رقابة وضغط اجتماعيين شديدين.
في عام 1948، حل بدور السينما ما حل بمعظم فلسطين، فتوقفت عن العرض لفترات طويلة من الزمن. ثم في عام 1967 كانت الضربة الأخرى للسينما الفلسطينية، التي أدت الى إغلاق الكثير منها بشكل نهائي حتى اليوم. أما دور السينما التي بقيت، فشهدت تضاؤلاً شديداً ومستمراً بالجمهور، إلى أن وجدت في عرض الأفلام الإباحية فرصة لإنعاش شباك التذاكر. هكذا توافد الجمهور إليها من جديد. كانت "سينما النزهه" من أشهر الدور التي اعتمدت هذا الاتجاه، إذ كان لها برنامج أسبوعي لعرض الأفلام الإباحية، ما أدى إلى حصر الجمهور أكثر فأكثر بفئة معينة ممّن يصنفهم المجتمع بـ"الزعران".
عرض الأفلام الإباحية في مدينة القدس يعتبر حدثاً مثيراً للجدل بوصفها مدينة محافظة. لكن مع ذلك، لم يكن ذاك السبب المباشر وراء إغلاق ما تبقى من دور السينما، بل كان السبب حالتها المادية التي راحت تتدهور مع انخفاض متزايد في عدد الجمهور.
أما اليوم، فمعظم دور السينما، التي عُرفت في القدس سابقاً، تحولت إلى توظيفات أخرى، مثل إقامة مواقف للسيارات مكانها. وهذا ينطبق على عدد كبير من السينماهات خارج القدس أيضاً. "سينما الحمراء"، أقفلت لسنين عديدة ثم افتتحت على أنها صالة أفراح. وحدها "سينما القدس" تم توظيفها في المجال الثقافي بعد أن أقفلت لسنوات عديدة، ليفتتح ما يعرف اليوم بـ"مركز يبوس الثقافي"، الذي تتخلل برنامجه عروض أفلام محلية وعالمية قصيرة، إضافة إلى المعارض الفنية والندوات الثقافية.
أما السينما الوحيدة الجديدة المتبقية في القدس اليوم، فهي "مسرح وسينماتك القصبة"، المكوّن من قاعة تسع 95 شخصاً، إضافة إلى كافتيريا و صالة معارض. للقصبة مقرّان: واحد في القدس، والثاني في رام الله، ويعتبر الثاني الأكثر نشاطاً. من جهة أخرى، هناك اليوم العديد من السينماهات في مدينة القدس التي يديرها ويرتادها إسرائيليون. توصف هذه الدور بأنها ذات صالات وشاشات متعددة ومجهزة بأحدث تقنيات العرض، مع برامج تتغير أسبوعياً لتقدم أجدد الأفلام، إضافة إلى وجود تخصصات مختلفة لكل سينما، مثل تخصص "سينماتك القدس" بعرض أفلام تتعلق بقضايا المجتمع اليهودي.
هكذا تلاشت ثقافة ارتياد دور السينما لدى الفلسطيني المقدسي، لتأخذ ثقافة متابعة آخر الافلام شكلاً آخر يتمثل بمشاهدتها في المنازل عبر الأقراص المدمجة المقرصنة التي تباع على مدخل باب العامود في البلدة القديمة.
نشر على الموقع في تاريخ 01/12/2013
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...