كان موعد اللقاء في المؤسسة العربية للصورة في الجميزة- بيروت، وكان الهدف إلقاء نظرة قريبة على أهم أرشيف للصور العربية القديمة في المنطقة، فوقعنا على وثائق فوتوغرافية نادرة تملأ فجوات التاريخ الذي نسيناه أو الذي لم يخبرونا عنه.
ذلك التاريخ الذي عرف المجد وشهد على نهضة ثقافية عربية أزاحها الإعلام لسببٍ ما عن شاشاته، تاريخ مدوّن في صور جميلة نوستالجية، لمعالم وشعوب فلسطين والأردن ولبنان ومصر والعراق وسوريا، وغيرها من بلدان الشرق الأوسط. ذلك الشرق الأوسط الذي على ما يبدو، عرف يوماً كيف يبتسم ببراءة بسيطة وفرح إنساني.
آلاف من الصور الحميمة والشخصية تظهر الواقع الذي مضى على المنطقة بكل تجرد، بعيداً عن البرامج التي تتدخل في معالم الصورة لتغيّر جمالها ومعناها الحقيقيين.
صورٌ ورثتها المؤسسة العربية للصورة من هواة تصوير ومصورين ماهرين، أهدوا إليها تراثهم الشخصي لتحافظ عليه وتُشرك الجمهور الكبير فيه. المؤسسة العربية للصورة أبصرت النور منذ نحو 17 عاماً، أمضتها في جمع وحفظ ودراسة صور من 12 بلداً، بما في ذلك البعيدة جغرافياً عن الحدود العربية، مثل الأرجنتين والمكسيك والسنغال.
يبدأ تاريخ الصور من القرن التاسع عشر وينتهي في القرن الجاري، بإشراف أحد مؤسسيها، المصور أكرم زعتري ومجموعة من المصورين المختصين، منهم فؤاد الخوري وسامر مهداد.
تسعى المؤسسة إلى إشراك الجمهور في ذلك الأرشيف المهم من الصور، من خلال معارض ومطبوعات تقوم بها، بالاشتراك مع متاحف وغاليريات ومؤسسات ثقافية عالمية، نذكر منها "Palestine before ‘48" و"Liban intime 1900-1960" و"How Beautiful is Panama: محادثة فوتوغرافية من مخيم برج الشمالي".
كذلك تعرض المؤسسة العربية للصورة قسماً كبيراً من أرشيفها على موقعها الخاصwww.fai.org.lb، ليتمكن كل راغب مهما كانت خلفيته وأهداف بحوثه، من تصفّح الصور في ألبومٍ إلكتروني بالأسود والأبيض، يخبر حكايات الأجداد ويكشف أسرار الثقافة العربية الحقيقية، قبل أن تُقولب في الشكل الذي نعرفه اليوم.
نهج المؤسسة العربية للصورة في انتقاء وتجميع الصور يختلف عن الطريقة التقليدية في الأرشفة، يستعين أكثر بمقاربة فنية ابتكارية تأخذ في الاعتبار معايير عدة، منها القيمة الفنية والرمزية الاجتماعية وندرة وخصوصية الصورة، كذلك يتولّى عدد كبير من الفنانين العالميين ومنتجي الأفلام والكتاب معالجة كل صورة تقع بين أيدي المؤسسة وتحليلها بعمقٍ فني وثقافي-تاريخي.
(1951 - 1961) مجموعة نيلى بسطرس
تشمل الصور التي التقطها مصورون وهواة مجهولون، مجموعة متنوعة من الأنواع والأساليب الفوتوغرافية، مثل الصور الوثائقية والتحقيقات الفوتوغرافية الصناعية والهندسية، وصور الموضة والإعلانات والفنون الجميلة، وصور العراة وألبومات العائلة. صور من الحياة اليومية، صور "Pose" لساعات طويلة، لقطات حرب وضحايا، مشاهد تقبيل، صور إنسانية...
لم تقتصر مهمة المؤسسة العربية للصورة على حفظ ودراسة أهم أرشيف في المنطقة، ذلك الذي تمتلكه، بل حرصت على نقل خبراتها إلى مؤسسات أخرى، ومساعدة من لديه أرشيف فوتوغرافي مميز في حماية صوره والحفاظ عليها. هكذا ولد مشروع MEPPI، أو مبادرة الحفاظ على الصور الفوتوغرافية في الشرق الأوسط، بالاشتراك مع منظمات دولية مثل معهد غيتي للمحافظة على الأعمال الفنية Getty Conservation Institute ومتحف متروبوليتان للفنون Metropolitan Museum of Art وهيئة متاحف قطر، وهو مشروع يهدف إلى مسح أرشيف الصور وتدريب المسؤولين على صونه، لإدخاله في مرحلة الإعلان عنه كتراث مهم، وإقامة الدراسات والندوات عن قيمته التاريخية.
في هذا الإطار، جرى تحديد 300 مجموعة لأرشفة الصور في المنطقة، وتدريب أكثر من 60 منها، فضلاً عن إقامة ورش عمل وبرامج تربوية موضوعها كيفية جمع المواد الأرشيفية وحفظها وتوزيعها.
في العام 1997 بدأ أكرم زعتري رحلته في أنحاء منطقة الشرق الأوسط، باحثاً عن الآثار التي تركها تاريخ المنطقة خلفه، من خلال البحث في المئات من الألبومات لصور عائلات، وجدها لدى قدماء المصورين، مستكشفاً أسرار الثقافات المتعددة الغنية في المنطقة. الكنز الكبير الذي اكتشفه زعتري كان في أستديو شهرزاد في صيدا، جنوب لبنان، في أرشيف المصور الكبير هاشم المدني، الذي يحمل أسرار سكان المدينة وتطورها السياسي-الاجتماعي عبر خمسة عقود.
التقط المدني صوراً لنحو 90% من سكان صيدا، وكان استديو شهرزاد مكاناً يقصده الناس لإظهار هويتهم الاجتماعية، أو تلك التي يرغبون في تجربتها، أو يحلمون بتبنّيها ولو للحظة واحدة أمام عدسة الكاميرا. نتجت عن تلك المقاربة المثيرة للاهتمام التي أقامها المدني في مختبره الاجتماعي، صور مميزة وفريدة تعكس نزعات حقبة عاشها الجنوب ولبنان، أهمها ظاهرة التقاط الصور مع الأسلحة في الأستديو، التي تعكس حقبة الستينات والسبعينات المضطربة سياسياً. كان من الطبيعي رؤية رجال مسلحين في شوارع صيدا آنذاك، وما إن يدخل أحدٌ استديو المدني مع سلاحه، يرغب الآخرون في استعارته ليتصوروا معه ويحتضنوه ويحملوه عالياً، لتخليد تلك اللحظة التي تعطيهم شعور النفوذ اللذيذ.
صيدا 1970 - مجموعة هاشم مدنيظاهرة اجتماعية أخرى صادفت عدسة المدني هي ظاهرة عشق السينما في الخمسينيات، تلك الشاشة العملاقة التي كانت تلهم زوار الاستديو للتمثيل أمام كاميرا المدني، وارتداء أزياء الأفلام الشهيرة كالـCowboys أو وقوف الرجال عراة، ليتمكنوا من فتل العضلات من دون أن تحجبها قطعة قماش، وتبادل القبل شرط أن تحصل بين رجلين أو امرأتين.
مجتمع صيدا المحافظ لم يكن يحبّذ فكرة التقبيل علناً، ولكنه بكل براءةٍ لم يمنع القبلة التي تجمع شخصين من الجنس نفسه، أمرٌ يبدو مثليّاً اليوم، في وقتٍ كان يبدو مشهداً سينمائياً يحتفظ به كذكرى للأيام البسيطة.
صيدا 1955 - 1959 - مجموعة هاشم مدنيالأيام البسيطة، أي تلك الحقبة من الزمن التي لم تكن تعرف الألم والتمزق اللذين نراهما اليوم، وتلك اللحظات الفرحة التي كان يعيشها سكان المنطقة على طريق القدس لحظة التوقف لالتقاط صورة جماعية مع مشاهد الطبيعة الخلابة، وفي سوريا خلال الحفلات الصاخبة التي كانت تضمّ الجماعات المختلفة بهدف الاحتفال بالحياة، وفي مصر خلال حفلٍ راقصٍ تؤديه نجمات الرقص المثيرات، وفي لبنان خلال عروض خاصّة للعضلات المفتولة، وفي الأردن مع لقطات لنساء ارتدين زي الرجال تحدياً للمجتمع الذكوري، وغيرها من لحظات خالدة في صورٍ، من شأنها أن تخبرنا أكثر عن الإرث الثقافي الأصيل، الذي كان من المفترض أن نحمله من أجدادنا، لو لم تتداخل الدعاوى السياسية - الاجتماعية بيوميات الشعوب البسيطة.
فلسطين 1959 - مجموعة هشام عبدالهادي فلسطين 1963 - مجموعة هشام عبدالهادينشر الموضوع على الموقع في 04.12.2014
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...