الحشيش أو Cannabis، مادة شحذت الخيال الأوروبي بسحر الشرق، وأصبحت أشبه بالمصباح السحري الذي يطلق جنيّ الإبداع. دخل هذا العقار أوروبا إثر حروبها الاستعماريّة، وتحوّل إلى طلسم يختبره الأطباء، إلى جانب الشعراء والفنانين كي يلتقفوا سحره. دخلت الماريجوانا إلى إنكلترا في بداية القرن السابع عشر، وعرفت فرنسا الحشيش تحت قيادة بونبارت. قدّم الأخير لمصر المطبعة الحديثة، واستحضر في مقابلها "الحشيش" إلى فرنسا، بوصفه مادة طبيةً ذات آثار مهدئة، لكن الأمر تجاوز الطب ليصبح تجربة جماليّة وثقافيّة.
التجربة الجمالية - الأدبيّة المرتبطة بالحشيش والأفيون، بدأت مع انتشار كتاب "توامس دي كيونسي"، "اعترافات رجل إنكليزي يأكل الأفيون"، التي ترجمت إلى الفرنسية عام 1828 على يد "الفريد دي موسيه". ما فَتح أعين المثقفين والفنانين على تجربة هذه الممنوعات، بوصفها تختزن طاقة جماليّة وإبداعية، فجذبت هذه المادة الرومانسيين، كمهرب من العالم ومحفّز لخيالهم الفردانيّ.
لكن من أشهر الظواهر التي انتشرت في منتصف القرن التاسع عشر والمرتطبة بهذه المادة، هي "نادي الحشاشين" في باريس. الاسم حقيقية يعكس طبيعة هذا النادي، إذ كان يجتمع الأدباء والمفكرين الكبار في تلك الفترة كـ"ألكساندر دوماس الأب"، و"تشارلز بودلير" و"بلزاك"، و"يوجين دولكروا"، لتعاطي الحشيش والأفيون، وخوض التجربة "السحريّة - الأدبيّة"، في سبيل إنتاج عمل فني أو أدبي. بدأ نشاط النادي بين 1844 حتى 1849، وتردد عليه مثقفو تلك المرحلة في أوتيل لوزون، "المعروف حالياً بفندق بيمبودان" في جزيرة سانت لويس الواقعة على نهر السين وسط باريس، الذي نراه مغلقاً للعوام منذ عام 2011.
قدّم بونابرت لمصر المطبعة الحديثة، واستحضر في مقابلها "الحشيش" إلى فرنسا
عن التجربة الجمالية - الأدبيّة المرتبطة بالحشيش والأفيون في أوروبا، وعلاقتها بالشرق"تيوفيل غويته" كتب عن النادي وزيارته له مقالاً بعنوان "نادي الحشاشين" عام 1846، بحجة أنه يزوره للمرة الأولى، ليتحدث عن التجربة بوصفها "التسمم الثقافي" Intellectual intoxication، واصفاً ما شاهده: "أشكال من كانوا حولي كانت غريبة، عيونهم مفتوحة كأعين البوم، وأنوفهم ممتدة كخراطيم الفيلة، وأفواههم مفتوحة كالأجراس، أحدهم كان ذو لحية سوداء ووجه شاحب، وكان يضحك بجنون كأنه يشاهد عرضاً خفياً، والآخر كان يعاني ويحاول أن يجعل الكأس تقترب من شفتيه، وهو يتلوى بصورة مدوّخة ليصل للكحول". المشهد السابق يمكن أن يلخص الحالة التي كان يختبرها مرتادو النادي وتجاربهم "الجماليّة". كما نشر الطبيب المختص في الاغتراب الاجتماعي جاك جوزيف مورو كتاباً بعنوان "الحشيش والاغتراب العقلي" عام 1845، تحدث فيه عن تجاربه الشخصية مع هذه المادة، وزيارته للنادي وتجاربه مع الحشيش والأفيون. وقد وصف تجربته في نادي الحشاشين: "فرط في الأحاسيس، وخصوصاً السمعيّة، انحلالٌ للوقت، وفي النهاية، ظهور للأشكال الغروتيسكيّة". ويضيف في المقال نفسه وصف داخل النادي، فيتحدث عن الضباب المحيط بالمكان وطبيعة توزع الأماكن. بالإضافة إلى حديثه عن فرقة الحشاشين التي كانت تابعة لحسن الصباح، وطبيعة الطقوس التي كانوا يمارسونها في الجبال، مستدعياً بذلك التراث الشرقي، بوصفه أسطورياً، وخصوصاً ما ارتبط بهذه الفرقة من أحاديث وخرافات، في محاولة لإعادة إحيائها في النادي. روّاد النادي حسب غوتية كانوا يقيمون طقوساً شرقيّة، يرتدون ثياباً عربية تقليدية، ويشربون القهوة الداكنة، ويأكلون الحلوة مخلوطة مع الحشيش. ونتاج هذه التجارب كانت مؤلفات عديدة كمؤلف الناقد والتر بنيامين بعنوان "عن الحشيش"، الذي يحوي 12 بروتوكلا عن الحشيش يدون فيها بنجامين ما رآه، لتكون النصوص هذيانيّة، وأحياناً خالية من المعنى الواضح. بدأ تسلسلُ الزمن بالتراخي. كما حصل مع فرانكل، الشارع أثّر علي، إذ شعرت أنني تغيرت كثيراً حين عدت للداخل في أي لحظة الآن، سأطرق السقف شديد الرقة بمعنى آخر، يبدو كحافزٍ للاستيقاظ. أسقط عن الدرج مرة أخرى، أمر خيالي، بدأ الضوء يتسلل من الخارج. لحسن حظي الآن لدي كل شيء، أي ما يمكن لخادمة أن تشتريه بخمس وعشرين قطعة نقدية في كتاب أحلام مصري. الموت مكان يحيط بقطعة المخدر. شعور بالخمول. الآن بدأت الدخول في المرحلة الإفريقيّة، أو هي السلطي، نسبة إلى Celtic، بدأ الضوء يسطع أكثر. سأتابع الحديث عما كنت أقوله سابقاً : (الآن أنا معلم مدرسة) شيء ما ينساب فوق حالة الاكتئاب هذه. إلا أنها تبدو بدقة ما ينقص المرء كي يكون سعيداً هذا هو البرهان الحزين، حقاً، الأمر مضحك، أصبح للموت حتمية مختلفة عن التجربة الأولى. البخار يتصاعد من الأرض، خطوة بالمنتصف، الضوء ينبعث من قطعة المخدر. أعمق في جوف الأرض، رأيت سرباً من الخطوات يتجه نحو الأسفل، ما يعني أننا نجلس بشكل ما في جوف الأرض. إلا أن التجربة الأهم المرتبطة بالحشيش، هي ما كاتبه الشاعر الفرنسي تشارلز بودلير، في كتابه "فراديس اصطناعيّة"، والذي يعتبر الأشهر في هذا المجال، فتجربة بودلير النثريّة- الشعرية المرتبطة بالحشيش، حرَضت الكثيرين على ارتياد النادي وتعاطي المادة. يكتب في أحد المقاطع: "أن تصل إلى هذه الحالة العقلية أمر ساحر ومتفرّد، حيث تجتمع كل القوى وتتعاون، وحتى لو كانت المخيلة في تلك اللحظات في أوجها، إلا أنك لن تفقد الحس الأخلاقي تجاه جدية المغامرات المحفوفة بالمخاطر، كما لن تعذبك المشاعر والعواطف السوداء المرعبة، أما تلك التحذيرات عن الجرائم التي قد تُرتكب أو اليأس الذي قد يصادفك، فلا يوجد ما يدل عليها أو على وجودها وأنت في تلك الحالة". التجارب مع الحشيش أو (المخدرات بشكل عام) في الوسط الفني، ما زالت حاضرة حتى الآن، والأمثلة من التاريخ لا يمكن حصرها. فمن آرثر رامبو وبول فاليري، حتى سيلفادور دالي وأليخاندرو غودورفسكي، ارتبطت المواد المخدرة والحشيش بالتجربة الفنية والإبداعية. وبالرغم من أن هذه المادة عرفت من أوروبا قديماً، إلا أن المتخيل السحري عن الشرق في أوروبا لم ينشأ إلا خلال المرحلة الكولونيالية وما بعدها، ليغدو محركاً للمخيلة وللتأليف الاستشراقي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...