في الغرف المغلقة والسرية، حيث الحرملك، القسم المخصص لنساء السلطان، كثيراً ما حُددت مصائر آلاف البشر وقُرِّرت حروب وأبرمت اتفاقيات خطيرة. السلطانة التي حصلت على هذا اللقب، لكونها فقط زوجة السلطان أو أمّه، أمسكت بخيوط اللعبة السياسية من خلال شبكة علاقات مع الأمراء والجواسيس. هي تملك القدرة على ترويض السلطان ودفعه إلى أن يذعن لرغباتها، فكان يلجأ إليها الوزراء والضباط إذا لم يتصرف السلطان على النحو الذي يريدون.
هنا نرصد بعض الأمثلة عن نساء حكمن أيضاً على مرّ التاريخ.
كانت "السلطانة الأم" خلال الحكم العثماني هي الأكثر حظوة لدى السلطان وحاشيته، فهي مَن أنجبت ولي العهد الذي سيُصبح حاكم البلاد. لذلك شهد "عالم الحرملك" فيضاناً من المؤامرات والدسائس بين النساء للفوز بهذا اللقب الذي يجلب لصاحبته القوة والنفوذ. كان يصل الأمر بـ"الجارية" إلى قتل العديد من الوزراء والأمراء والزوجات وولاة العهد حتى يصبح ابنها سلطان المستقبل.
شيئاً فشيئاً استفحل هذا الصراع في الإمبراطورية ليصبح السلطان أحياناً مجرد شخص شكلي بلا كلمة، بينما تُدار الأمور بواسطة السلطانة الأم والوزراء. على أن غموض عالم "الحرملك" دفع بالكثيرين إلى نشر تكهنات وافتراضات غير موثقة، منها مسلسل "حريم السلطان" الذي تناول تلك الحقبة التاريخية. اتهمه الكثيرون بعدم الموضوعية والاعتماد على خيال المؤلف، إلا أن أحداً لم يقدم بالمقابل إثباتاتٍ تدحض ما ورد فيه.
سُميت هذه المرحلة "حُكم النساء" أو "سلطنة الحريم" وامتدت 146 عاماً (1541 – 1687)، وتشمل بضع سلطانات منهن "خرّم" و"كوسِم" و"نخشديل".
خطف التتار الجارية الأوكرانية "روكسلينا" في إحدى معاركهم على شبه جزيرة القرم، ثم بيعَت للقصر السلطاني لتبدأ رحلتها في عالم الجواري. ما لبثت أن أصبحت بسبب حسنها البالغ محظية السلطان سليمان القانوني الذي أطلق عليها اسم "خُرَّمْ" ومعناه: صاحبة الضحكة المثيرة، وقد عُرِّب الاسم في ما بعد إلى العربية فأصبح: هيام.
لم يكن إنجاب "خرّم" لابنها "سليم" وحده ما رفع من شأنها في القصر، بل كان لفتنتها وألاعيبها الجنسية الدور الأهم في جعل السلطان يرضخ لجميع مطالبها. حين أصبحت زوجةً شرعية له دفعته إلى التخلي عن جواريه إرضاء لغيرتها، ثم اشتبكت مع زوجته السابقة مهد فران، وقامت بالكيد لها ونفيها.
تُعد شخصية "خرّم" من أكثر الشخصيات إثارة للجدل في التاريخ، فهي إلى جانب الحب والشغف الذي منحته للسطان كان لديها من الدهاء ما يكفي لتصفية كل من وقف في طريق تولي "سليم" ولاية العهد. فقد كانت وراء إعدام "مصطفى" ولي العهد الشرعي وابن "مهد فران"، وإعدام "ابراهيم باشا" معاون السلطان، والذي كان السبب في مجيئها إلى القصر، إذ إنه هو من اشتراها جارية وقدم بها إلى القصر. كل تلك المكائد وقعت بأمر من "خرّم" ونفّذها السلطان الذي أصبح كالدمية في يديها، لكنها لم تشهد تلك اللحظة التي يُنصَّب فيها ابنها "سليم" سلطاناً بسبب وفاتها المفاجئة.
كان سلطان الإمبراطورية العثمانية "ابراهيم" مصاباً بالانفصام حين تسلّم مقاليد الحكم وهو في الخامسة والعشرين من عمره (عام 1640م) بسبب ما عايشه من جرائم قتل إخوته في الحرب الدموية على الحكم، في حين كانت أمُّه "كوسِم" هي الحاكمة الفعلية. لما اختلف مع سياساتها ورغب في الاستقلال عنها عزلته ثم قتلته وولَّت حفيدها محمد خان الرابع وهو ابن ست سنوات مكانه، لتستمرّ في الحكم الفعلي، ثمّ تعيد تجربتها مع ابنها "مراد الرابع" الذي كان قد نُصِّب سلطاناً قبل ابراهيم وهو في الحادية عشرة، فحكمت بالنيابة عنه ريثما يكبر، على الرغم من استمراره في استشارتها الدائمة حتى وفاته بعد 17 عاماً. لا نعرف الكثيرَ عن هذه السلطانة، إلا أنها حكمت بضع مرات وفي فترات متقطعة، فقد كانت شغوفة بالسلطة والسياسة وشديدة القسوة.
تروي إمبراطورة فرنسا في القرن التاسع عشر "جوزفين لاباجيري" Josephine de La Pagerieأنها ذهبت في صغرها برفقة ابنة عمها إلى أحد قرَّاء الكف، فتنبأ لها بأنها ستحكم الغرب، أما ابنة عمها "إيمي دي ريفيري" Aimée de Rivéry فسوف تحكم الشرق. في العام 1784، حين كانت "إيمي" عائدة من مدرسة الراهبات في مدينة "نانت" Nantes الفرنسية، اختطفها القراصنة ثم باعوها لحاكم الجزائر الذي أراد من خلالها أن يعزز مكانته في السلطنة فأهداها إلى السلطان "عبد الحميد الأول"، لكونها فتاة عشرينية آسرة الجمال.
فُتن السلطان المُسن بالفتاة الفرنسية الشقراء وأطلق عليها اسم "نخشديل" ويعني "المطرزة القلب". حين أنجبت له صبياً تزوّجها، مما أدخلها في الصراع الدائر بين نساء القصر خصوصاً أنه كان يفضلها عليهن. وصل بهن الأمر إلى خنق رضيعها في فراشه، فقدَّم السلطان طفله "محمود" إليها لتربِّيه، إذ إن أم محمود كانت قد قُتلت في إحدى مؤامرات "الحرملك".
بعد وفاة السلطان عبد الحميد تولى أخوه "سليم" شؤون الحكم، فقامت "نخشديل" بإغوائه ونجحت في ذلك، وكان لها هدف آخر غير زيادة نفوذها، هو تعزيز الوجود الفرنسي في السلطنة. أقنعته بتعيين سفيرٍ في باريس وإصدار صحيفة بالفرنسية بالإضافة إلى مجموعة إصلاحات سياسية وعسكرية ذات طابع ليبرالي فرانكوفوني، لكن هذه الإصلاحات أودت بحياة "سليم" على أيدي المتزمتين. بعد سلسلة من المكائد وصل "محمود" إلى الحكم، لكن الحقيقة أن "نخشديل" هي التي وصلت إليه، وقد أدخلت كثيراً من فنون العمارة والزخرفة وأساليب الحياة الفرنسية إلى السلطنة.
امتدت الدولة السلجوقية في عهد "ملكشاه" من "تركستان الشرقية" (واسمها اليوم"شينجيانغ"- إحدى المقاطعات الصينية)، حتى "بيت المقدس"، وقد بسط الملك نفوذه وأخمد أغلب الحركات المناهضة له. كانت لزوجته "تركان خاتون" الكلمة العليا في الدولة، إلى درجة أن معظم المعاهدات والمعاملات التجارية كانت تُمهر بختمها إلى جانب ختم الملك، وما كان على المنفذين إلا أن ينظروا إلى ختمها ليتم التنفيذ. حين تُوفي الملك كتمت الخبر وسارت بالجثمان إلى بغداد كي لا يتولى أكبر أولاده- ولم يكن منها- الحكمَ بدلاً من ابنها "محمود سرير المُلك"، فقدمت الإغراءات لرجال الحاشية حتى اتفقوا على توليته، ثم قادت من وراء الستار سلسلة من الحروب دفاعاً عن دولة السلاجقة.
في رواية "سمرقند"، يصف أمين معلوف علاقة "تركان" بـ"ملكشاه"، وعلى الرغم من أن الرواية ليست توثيقية، فإن الكاتب يعتمد حقيقة تاريخية في ما يتعلق بسيطرة السلطانة على الحكم. "هي أقدم نساء ملكشاه، لم يكن عمره عندما عقد عليها سوى 9 أعوام، وكانت في الحادية عشرة. لقد انتظرت بصبر أن يكبر، وفاجأت أول ارتعاشات جسده، ورأت أطرافه تنبسط وعضلاته تنتفخ، وبكَّرَت في ترويض ذلك الملك العديم الشخصية، ولم يحدث أن انقطعت عن أن تكون الأثيرة المدللة المخطوب ودها والمطاعة. كان "ملكشاه" ينعم بالدعة في أحضانها، فهو يزيح الحرير الشفاف الذي يغطيها ويلتصق بجسدها ويلهو ويزمجر ويروي مآثره وتضجراته، وهي تحتضنه وتستقبله استقبال الأبطال في ثنايا جسدها، وتحتجزه طويلاً وتحكم عليه الطوق ولا تفلته إلا لتجذبه من جديد. يتمدد بكامل ثقله غازياً مبهور الأنفاس لاهثاً مستكيناً مسحوراً، فهي تعرف كيف تقوده إلى أعماق اللذة، ثم تبدأ أصابعها الدقيقة برسم حاجبيه وجفونه وشفتيه وشحمتي أذنيه، وحينئذ تنساب كلمات "تركان" في جوف روحه. هو يحبها بطريقته الفظة الخشنة الصبيانية الحيوانية، وسيحبها حتى آخر نفَس فيه، وهي تعلم أنه لا يستطيع أن يرفض لها أمراً، وهي التي تملي عليه غزواته الآنية وسراريه وإيالاته، وليس لها في الإمبراطورية كلها من منافس. (سمرقند- أمين معلوف- ص 144-145).
حين غزا الأوروبيون مصر عام 1249، كان الملك "الصالح نجم الدين أيوب" مريضاً، فختم مجموعة من الأوراق البيضاء وأعطاها لشجر الدر لتتسنى لها حرية اتخاذ القرارات. بعد وفاته، نقلت شجر الدر جثمانه سراً إلى قلعة "جزيرة الروضة"، وأوهمت المصريين بأن الحاكم مريض لا يستطيع رؤية أحد، ثم أحضرت ابنه "توران شاه" لتأكيد مبايعته ولياً للعهد أمام الحاشية، واستمرت في إدارة الخطط الحربية في الخفاء حتى استطاعت أن تنجو بمصر من الاحتلال والفوضى بمساعدة حاشية الملك: الظاهر بيبرس وركن الدين بيبرس وقلاوون الألفي.
قيل الكثير عن سيطرة النساء على الخديوي إسماعيل، وبعيداً عن مسلسل "سرايا عابدين" الذي عرض في رمضان، والذي احتوى على كثير من المؤامرات بين نساء القصر ومحاولات سيطرتهن على السلطان المتزوج من أربع عشرة امرأة عن طريق الجنس، فإن السلطة الأعلى كانت لأمّه تركية الأصل "خوشيار هانم"، وهي التي جلبت آلاف الجواري إلى السرايا وبنت "مسجد الرفاعي" الذي يُعد تحفة معمارية في مصر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون